قبل أيام كنت في أحد مراكز بيع المواد الغذائية للجملة، وما أن دلفت المحل الضخم بسقفه العالي، حتى صاح المشرف السوداني بشاب في السابعة عشرة من العمر تقريباً: يا محمد شوف الزبون! تبعني محمد وهو يدفع العربة خلفي منتظراً تعليماتي، حتماً لم يكن بنغالياً، وهو بالطبع ليس من الجنسية الباكستانية ولا الهندية ولا الفلبينية، فمستوى هؤلاء وطموحهم أكبر من إنسان (يدف) عربة (المقاضي) خلف العميل!
محمد كان شاباً سعودياً خجولاً، بالكاد يجيب عن أسئلتي، وحين آمره بإحضاركرتون أو كيس، يجيب: سم، أبشر!. بعد أن انتهيت وخرج بالعربة إلى الشارع، وقام بنقل الأغراض من العربة إلى صندوق السيارة الخلفي، كنت متردداً بين أن أمنحه (إكرامية) أم لا، كأنني أشعر أن كرامته أكبر من أن ينال (بقشيشا)؟ كل ما فعلته أن شاركته نقل الأغراض كي أطمئن إلى أنه لن يشعر بالمهانة!
هذا الشاب الذي بالكاد أسمع صوته وهو يهمس، يعمل في أحد أهم مراكز بيع الجملة الذي أشغلنا بوطنيته، تلك الوطنية التي جعلت الأجانب يعملون على صندوق (الكاشير) وفي الإشراف، بينما لم يجد لابن الوطن غير وظيفة دفع العربة خلف الزبائن، وكأنما لم يسعفه مؤهل الثانوية العامة الذي يحمله أن يتعلم الضغط على أزرار آلة الكاشير، أو حتى قيادة الرافعة الصغيرة داخل المحل التي ترفع البضائع إلى الأرفف العليا أو تنزلها!
أرجو ألا يأتي من يقول لي: إنه لا عيب في العمل، فهناك عمل يحفظ كرامة الإنسان، وهناك ما لا يحفظها، فهذا العمل مثلاً يخلف جرحاً لدى الإنسان، هل تقبل أن يأتي إنسان أياً كانت جنسيته أو شكله، وينحني على حذائك كي يمسحه؟ شخصياً لا أقبل ذلك وأشعر بالحرج، وأظنك -عزيزي القارئ- لن تقبلها أيضاً، فمن الصعب أن نقبل مهانة المرء أمامك، فكيف إذا كنا شركاء في مهانته، وكيف أيضاً إذا كان هذا المرء ابنك أو ابن وطنك!
أعتقد أن بعضهم قد يقول: إن هذا الشاب يعمل، وأنه في كل الأحوال أفضل من غيره، هذا صحيح للوهلة الأولى، لكنه سيبقى لسنوات طويلة يعمل في خنوع وإحباط، لا ينتظر أن يطور قدراته، أو يواصل تعليمه، بل قد ينظر في يدي الزبون الذي يضعهما داخل جيبيه، منتظراً بقشيشاً صغيراً، وبطريقة الكسب الرخيص.
فما الفرق بينه وبين السيدة التي تلتحف عباءتها أمام بوابة ذلك المحل لبيع الجملة، وتدخل حالما ترى زبوناً جديداً داخل المحل، لتطلب منه صدقة لأجل أطفالها، وتأخذ جالون زيت أو كيس سكر، منتظرة الزبون عند الكاشير كي يدفع نيابة عنها.
ربما الفرق أن السيدة امرأة لا حول لها ولا قوة، ولا عائل لديها يسكت أفواه صغارها، بينما هذا الشاب الذي لم تنصفه الوظيفة، ولا الظروف المحيطة به، أسوأ من الفتية الصغار الذين يساعدون المشترين في حلقة الخضار في أي مدينة، لأن هذا الأخير يمتلك العربة، ويعمل لحسابه الخاص، ويقابلك بوجه بشوش وواثق، وغير منكسر، لأنه يرى أنه يعمل في التجارة حتى وإن كان صغيراً وفي البدايات، لكنه يأخذ أجرته من تعبه، لا ينتظر من يهمز يده بخمسة ريالات مثلاً!