الحمد لله منشئ الأيام والشهور، ومفني الأعوام والدهور المتفرد بتقدير الأقدار وتصريف الأمور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أحمده سبحانه فهو الغفور الشكور.
ما نلمسه من تعاقب فصول السنين والأعوام، وسرعة تصرم الأزمان والأيام؛ إشارة إلى معجزة نبوية، وعلامة من علامات الساعة قد أخبر عنها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما الهرج؟ قال: (القتل، القتل) رواه البخاري. ونقل بعض أهل العلم في معنى تقارب الزمان ما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار). رواه الترمذي.
أيها الموفق للسعادة في الدارين أينقضي عام ويدخل آخر، وتمر الأيام والأعوام؛ دون أن نتفكر ونتعظ ونتأمل عليها ساعة نستفيق فيها من غفلتنا ونومنا العميق، ونتفكر في نهايتنا، ونعتبر؟
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} سورة الحشر (18).
فهذه دعوة من الله - عز وجل - لي ولكما أيها الأخ والأخت الأكارم أن ننظر في مستقبل أعمارنا، وما قدمناه لغدنا من عمل سام جليل، فإن غداً لناظره لقريب، فهل ستقبل الدعوة، وتحيا أنفاسك في يقظة من الغفوة، فوالله قد طال السبات، وقرب الفوات، وأناخت بجوارك السكرات يا أسير الغفلات، فاغتنم العمر، وبادر بالتقى قبل الممات قال الإمام الحسن البصري - رحمه الله -: «أدركت أقوامًا كان أحدُهم أشحَ على عمره منه على درهمه». أيها الساهي واللاهي والغافل الحياة قصيرة وإن طالت في نظرنا: والكل منا يعلم أن الحياةَ الدنيا لها أشكال كثيرة، وألوان عديدة، ويريد بعض منا - بل الكثير - أن ينال من لذائذها، ويستمتع بشهواتها وملذاتها، ويحظى بساعاتها، وغفل أن حياتنا الدنيوية متعتها زائلة، وشهواتها مرة ورخيصة فانية، مهما بذل الإنسان في سبيلها، وسعى في تعميرها، وتربع على عروشها، وجال في قصورها العامرة، فهي ساعات قصيرة يوشك أن تنقضي، ولحظات بسيطة تكاد أن تنتهي، ثم بعد ذلك سيلقى كل منا حتفه، ويعاين مصيره قال مطرف بن عبد الله - رحمه الله -: «إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه»، ولا ندري من يعيش يوماً آخر أَوْ عاماً جديداً؛ بل لو تأملنا أعمارنا على اختلاف فيما بيننا لوجدنا أن عمرنا المنصرم سواءً أكان عشرين أم ثلاثين أم أربعين سنة او مئة او أكثر او أقل؛ أشبه بدقائق بل ثوان مرت مرور الكرام، وهكذا الحياة الدنيا قصيرة؛ فالحذر من التقصير يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما لي وللدنيا، إنما مَثَلي وَمَثَلُ الدنياكمثل راكبٍ قَالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتَرَكَهَا) رواه أحمد، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابرُ سبيل)، وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» رواه البخاري وزاد فيه: «وعُدَّ نَفْسَكَ من أصحاب القبور». رواه الترمذي.
قال الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقــائق وثـواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني
وقال الشاعر:
إن أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً
ندمت على التفريط في زمن البذر
ينقضي العام والشهر والأسبوع واليوم فنظن أننا عِشْنَاه وزدنا عامًا، وفي الحقيقة قد فقدناه ونقصنا عامًا من أعمارنا، وربما نعجب من هذا الكلام وهو حق، قال الحسن البصري -رحمه الله-: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذَهَبَ يوم؛ ذَهَبَ بعضك». الأصبهاني. فكل عام يمضي من أعمارنا نقترب به من الموت، ونهاية المطاف أشبه بالموظف الذي يأخذ إجازة ثلاثين يومًا، إذا قضى فيها عشرة أيام، يكون قد خسر منها عشرة أيام فصارت عشرين يومًا، فإذا انقضت الإجازة فكأنها لم تكن. بوب البخاري -رحمه الله- باب: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه»، وذكر فيه حديث أنس: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرُّ منه حتى تَلْقَوْا ربكم.) صحيح البخاري.
اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
سائلا الله الهداية للجميع والتوفيق لصالح الأعمال والإسعاد في الدارين.