بعد أن خلق الله العرش والقلم ثم المخلوقات العلوية والسفلية كلها أعد الأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}، ثم خلق الإنسان الأول «آدم» عليه السلام.. وعندي أنه لا وجود للبشرية قبل ذلك، كما أن أرضنا هذه لم تُسكن قبل آدم لا من الجن ولا من غيرهم من خلق الله، خلاف ما ذهب إليه البعض من الكُتّاب المعاصرين!! والحديث في هذا الموضوع يطول. وآدم كما أنه أبو بني آدم هو أبو البشرية، وكذا أبو الإنسان، ولعل من الشواهد القرآنية في هذا المقام قول الله - عز وجل - {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}.. ولا يستلزم من هذا ولا يُفهم منه أنني أنفي أن لهذا المخلوق المكرم العزيز على الله وجود في العلم الإلهي قبل أن يصبح له وجود عيني؛ إذ إن من نافلة القول أن خلق الإنسان سبقه علم الله به مثله مثل بقية مخلوقات الله، وصدق الله القائل {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.. وقد شاءت إرادة الله - عز وجل - أن تكون العلاقة بين الأرض، التي هي خلق من خلق الله، وهذا الإنسان منذ بدء الخليقة علاقة استخلاف وتسخير وتمكين. ولأهمية الدور ولعظم الأمر تولى الله - عز وجل- إعلان هذه المهمة التي سيعهد بها لآدم في جمع من الملائكة المقربين قبل أن يهبط هذا المخلوق لمقر وظيفته الدائمة إلى قيام الساعة «الأرض» {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...}، ودون الدخول في تفاصيل الحدث أخلص هنا إلى القول بأن الله - عز وجل -:
- خلق الأرض أولاً وهيأها لاستقبال آدم وذريته من بعده.
- خلق الإنسان الأول من جنس الأرض.
- جعل هذا المخلوق خليفة «له» لا «عنه» في هذا الكوكب المعروف باسم الأرض، وفرق كبير بين الخليفة عن والخليفة لـ.
- ذكرنا في مواضيع عديدة أن الأرض وما فيها ملك له وما زالت بيده {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}،... {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ...}؛ لذا ليس لهذا المخلوق ادعاء التصرف كما يحب هو؛ فهو مجرد مؤتمن على ما بيده لربه.
- بعث أنبياء ورسلاً وأنزل معهم التشريع المتضمن قيماً إنسانية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية يجب على المستخلف السير عليه؛ حتى يتسنى له العيش على منهج الحياة الذي حدده من بيده الملك؛ وذلك من أجل ضمان استمرار ملكه ودوام عرشه. ولعل أهم هذه القيم المطلقة والقواعد العامة على الإطلاق «العدل» و»المساواة».
- حدد لهذه المهمة الاستخلافية سنناً لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابي أحداً حتى قيام الساعة، هذه السنن تضمن لمن التزم بما شرع صاحب الملك، وهو الله سبحانه وتعالى، ولم يحد عنها، البقاء زمناً أطول في كرسي الحُكْم وعرش السلطان.
- قرر - عز وجل - أن الأمر في النهاية بيده هو وحده؛ فهو كما أنه {يؤتي الملك من يشاء} هو وحده - عز وجل - مَنْ ينزعه ممّن يشاء. وهذه اللفظة «ن ز ع» تومئ إلى الشدة والقوة؛ فالعرب تقول نَزَعَ الشيء من مكانه: قلعه، وهي الصورة «صورة النزع» التي تحكي بكل دلالاتها وبجميع معانيها حالة حكام العرب في زمن ما يسمى بالربيع العربي!! لقد نُزع منهم الملك نزعاً، وكانت تنحيتهم عن الكرسي جبراً، وبالقوة، ولو سألت أكثر المراقبين حيادية وعلمية وتجرداً لقال إن هؤلاء الحكام محل الحديث هم من فرط في المحافظة على سلامة حاله، وحاد عن سنن الله المعروفة في الاستخلاف؛ فكانت النتيجة التي تُرى وهي نتيجة - في نظره - طبيعية، وإن كانت قاسية وربما غير متوقعة في هذا الظرف الزمني بالذات.
إن علينا أن نرجع ونراجع نظرية العطاء والنزع للملك، سواء كبر أم صغر، كان دولة أو حتى كياناً أسرياً صغيراً في ضوء سنن الله الكونية والتاريخية؛ حتى يتسنى لنا المحافظة على وجودنا العربي في ظل حكم عادل له من الشرعية الحقيقية ما يكفل عدالة التوزيع وأمن وسلامة وسعادة ورخاء وإنتاجية المواطن وحماية وتنمية ورقي الوطن. ودمت عزيزاً يا وطني، وكل عام وأنتم بخير، وإلى لقاء. والسلام.