بداية برقيات شاعرنا.. ليست ثلاث ولا أربع دائماً ست رقيات.. لا أدري أكلهن سمان. أم عجاف. أو أنهن أو بعضهم بين. بين:
سأتناولهن واحدة واحدة وباقتضاب بتسلسل الأرقام المعطاة لهن كي نكتشف معاً حالة حالة كل واحدة منهن على حد من خلال مشهده الشعري..
قال عن الأولى:
كالقمح يا حبيبتي أملوءك الرشيق
تمشين يا حبيبتي فيهجس الطريق
يسير في عباءة وطرحة غصن من العقيق
وجدنا شاعرنا أنيقة. رشيقة ممشوقة القوام كسبها وكسبناها من أجله لم تكن عجفاء.
الثانية قال عنها:
وجهك يا حبيبتي منازل القمر
تضحك في مياهه الغيوم والشجر
إن أظلمت مسالكي. لي وجهك القمر
وجدها دليل سفر تأخذ عبر الظلام الدامس دون ضياع.
الثالثة قال عنها:
يداك يا حبيبتي كفلقتي رمال
من كفيهما الرحمة والأمان
يداك جنتان
ربيعية.. وحصن. وحضن يحتمي به لحظة خطر..
الرابعة قال عنها:
عيناك يا حبيبتي تناسخ الفصول
اقرأ فيها البقاء واللقاء والأفول
جاء امرؤ القيس وناداني من الشموس. أجلسني على الركب
كانت عصبة. صعبة المنال. نظرة من عينيها يتحول الصيف إلى شتاء. والربيع إلى خريف ولأنه يعشق الربيع وحده استعان بامرىء القيس من مرقده.
قال عن الخامسة:
غزالة الصحراء والمياه تطير في روحي كالحجل
تسبل في مائي كينبوع على وتر
تمشي الهوى في دمي كأنها قمر
لابد وان شاعرنا اشتاق إلى أعرابية لها جلد وطاقة وهو يعبر الصحراء القاحلة العطشى كي تسقيه من ينبوعها ماء على أنغام وتره.
أخيراً قال عن رقيته السادسة:
مجنونك يا رقيه!
اكتفى بهذه العبارة.. وجنون الحب في بعضه فنون وفتون وشجون مجتمعة أو متفرقة..
شاعرنا يعمد إلى الأرقام كفواصل بين مقطع وآخر عبر عنوان واحد.. اجتزى من قصيدته (لها ما تشاء) رقم أربعة:
لها أن تفىء إلى روحها ساعة أن تمرر ساعدها في المياه
أن تفك عنها ضفائرها أن تمشط اغصانها
أن تلف عقيصتها أو تفك غدير السواد ولها ما تشاء
من حقها وتلك خصوصيتها دون مصادرة أن تتصرف في داخلها وفق ما تريد دون استئذان.. إنها تعمل كل هذا لأنه حق مكتسب..
البكاء على حافة الخشبة: يقول مطلعها الأول:
جيء بي من جوى في جفاف البداوة
جيء بها من غدير على حافة النهر
ماذا تريدين؟! ماذا أريد؟!
بعد حين يبدل طاولته ومكانه. وبعد حين أيضاً يبدل جنتها بجحيم الجهات وجنتها خشبة ما هذا يا علي يا فقيه؟ دون هذا ويبتاع الحب.. أنت بهذا الاختيار غير المتماثل أشبه بخراش الذي جنى على نفسه.. الجفاف لا يتقاطع مع شاطىء النهر الممرع.. إبدال جنتها بجحيم خيار مدفوع الثمن لن تكون بمنأى عنه.. ألست القائل:
من دهور أشد بطون الإبل. وأشق بطون الرحال
إلى امرأة في الجبال البعيدة إلى امرأة في البحار البعيدة
إلى امرأة في الهواء الرشيق الذي انتفسه
لكي تفتح لك باب محارتها فتلم خطاك وشظاياك.. وتدثرك بعباءتها.. هكذا يكون حسن الاختيار يا عزيزي..
قصيدته الثانية من أشجار تقول:
ناس خرجوا للرزق من باكورة الصبح
وناس قعدوا للذكر. أو ناس يعدون الدنانير
وهذا العمر ممتد ففي مصر النواطير الثعالب
وفي بيروت تجار يسوحون غداة الحرب
هذا وطن يرتع فيه اخطبوط
إن للشهبندر اليوم وجوها عدة امتد للأشجار
الناس أجناس يختلفون في مآربهم ومشاربهم يتحركون داخل دولاب واحد كل في مساره.. وفي اختياره.. هذا يكد كي لا يجوع. وذاك وهب نفسه لعبادته.. وثالث مهمته الحفاظ والاحتفاظ بشيء وكل إليه.. وآخرون يتنفسون الصعداء سياحة هروباً من مخاطر الحرب لأنهم يحبون الحياة.. أما الاخطبوط فقد أصبح مواطناً بحكم الشرعية الأممية له الحصانة والضمانة.. شهبندر هو جل هؤلاء كلهم يرددون:
يوم آنست على بيروت ناراً قلت هذا زمني
يوم آنست دما هللت هذا بدني
يوم ارتفعت بيروت ناديت: ألا طوبى فهذا وطني
إن لسان الحال لا يتغير.. إنهم يركبون كل الأمواج والغاية واحدة تبررها الوسيلة..
الرقم السابع من عنوان (الأشجار) نضح بما فيه من أخوة وقوة.. لا أحد ينسى (صبرا وشاتيلا) ومجزرة المخيمين في بيروت:
تعشب الأشجار في طيني
تطل براعم كالشهد في جذعي
والسر الذي بيني وبين الناس عشب الناس
يا (صبرا) اعينيني.. وصبي دمك السائر في جسمي
وظلي في صفيح القلب شديني
فليست هذه آخر زهر الدم
وليست آخر العمر - وليست آخر الأوراق
كان حدسك صائباً فما كانت آخر العمر.. ولا جاءت آخر الأوراق الحمراء المنقوعة في دماء الشهداء. العراق غرق بدمه.. ولبنان شرق بدمه من جديد. وباكستان وأفغانستان والصومال واليمن.. والحبل على الجرار.. والخريطة مرسومة بمداد الاحتلال.. والانفصال..
شاعرنا تنفس هواء لا يدانيه هواء.. له لون الليل.. وصوت الويل.. وقلة الحيل:
كان الهواء. أولاً.. وكانت الطريق مسالك الوعول
كان الماء. فكانت الايدي مضاجع الحجارة
يدايع ممدودتان. والبئر تفور كالأفعى
وقامتي تلجم الريح.. الليل يغل المدينة
وهم يغلون الأطفال.. والبورصة تغل الأرزاق
وهيروشيما.. ونجازاكي تغلان الفضاء
رؤوسهم تحبس الهواء. ولهم غواية الحصد
هكذا مجرى التاريخ الأقوى يفترس القوي.. والقوي يفترس الضعيف.. والضعيف يأخذ بثأره من الأضعف.. إنما العاجز من لا يستبد..
ومن عنوان (مرآتك مرآتها) اجتزىء بعضاً من أبياتها:
سآخذها من فوديها الطويلين إلى نوافذ نائية في الغابة
ستأخذني من مهالكي إلى حذاء الرصيف وعري الباعة
سأعوي. وستقذف بي إلى النشاز في الحداء
إلى الخلخة في الخطى المأخوذة. سأعوي وستصرخ بي
تقذفني بعريها الآسر كعاشقة رباطنيها
وستهتف بي لهدير الهلال. ولا نعير إلا أنت
حلبته صراع مخيف وعنيف بينه وبين مجهولة المعالم يأخذ مرة وتأخذه أخرى.. تارة تقذف به ويعوي.. وأخرى تصرخ وتقذف به إلى أسر عشق يفضي بها لأن تهتف به.. هذه هي المجهولة الأولى المبنية على مجهول.. ثم خطاب قصير إلى ثانية يلتمس منها العون. والنصر.
لابد وأن وراء الأكمة ما وراءها.. وأحسب أن السر في بطن الشاعر لم يكشفه هو.. ولم نستكشفه.. تاركين في نهايته أكثر من علامة استفهام واحدة (؟؟؟).
من حسنات بافقيه أنه جرأ أفكاره الشعرية. والنثرية الفنية من خلال مقاطع قصيدة يسهل التعاون معها توهان في سردها واستجلاء مضامينها ومحتواها دون اجهاد.. وهو اختيار ذكي يحسب له..
من مقطوعته (وجوم) يقول:
آن لهذا القلب أن يغني أو أن يعود عودا
آن له أن يرشق الطريق. أو يرشق الممر والزميل
والبيت. والاسفلت. والصديق..
خيارات مطروحة أن تكون رحيماً شفافاً تملك ذائقة الجمال.. أو أن تكون جامداً كالصخر.. أسود كالأسفلت الذي تدوسه الأقدام.
ماذا قال عن (الغيم)؟!
ربما علق القلب قبره قبل أن يفرق القلب
أو ربما كاد يطفو. ويغرق في غيهب الغيم
أو ربما انفرط القلب مثل صغار الشياه
احتمالات قابلة للحدوث بين ما يتغنى به عن رغبة.. وما لا يتمناه عن رهبة.. قلب ينبض بالحب.. وآخر يرفض بالصب والامتهان..
وفي مقطوعته الرابعة تحت مظلة وفطنة الغيم يقول شاعرنا:
على الطلعة الجبلية بين النقا. والحجون
لا يزال الصغار يضجون في المدرع الجبلي
يدسون أوجههم في الزوايا. خفايا. خفايا
هذا في الطلعة؟ ماذا عن القرية الجبلية؟!
في ظاهر الأرض لما يزالوا يحنون أحجارهم
يقطفون الإناء الصغير النحاسي..
يبنون بيتاً من الطين
في الجبل خشية من السقوط إلى السفح لأنهم صغار على معرفة الحركة اليقظة.. وفي القرية تهوى أمامهم الأخطاء والأخطاء.. وممارسة حياة الطفولة دون خوف..
(ايقاع) له معزوفة قصيرة وقعها شاعرنا وهو يغني في رجفة يتقاطع فيها الإقدام والإحجام:
انجو بأغنيتي.. وتنفر بي حينها. أأقفلها؟
لا شيء ينقفل.. لا شيء يكتمل
لا شيء يكتمل في أدبيات الحياة.. إنها بين بين.. ولهذا دع أغنيتك تصدح بحلمها الجميل.. أو حتى بحزنها الثقيل.. الحياة قدر..
شاعرنا استقبل الصباح ببشر.. وحب لا يمكن حجبه عن أنظار المتطفلين:
صباح على ورق الماء..
خضراء خضراء هذه العيون الصديقة
والندى عسجد في الأواني
بقي أن تعب من ماء العسجد قبل أن تجف الأواني.. أمطار الحب لا تهطل دائماً.. أحياناً جفاف.
خلصنا من مجموعة الديوان الأولى تحت عنوان (رقيات) ونلج مع رفيق الرحلة إلى مجموعته الثانية بعنوان (جلال الأشجار) مع (عروة بن الورد) وحبيبته سلمى و(عبس).
عروة يرحل مع خاطف البرق
يهجع في وهجه ألف عام
وسلمى تناديه يسمع خيلا. ويسمع نخلا
وسلمى تناديه. يسمع برية شاسعة
كل هذا أصداء من دون نداء:
كان عروة يرمي مقاطعه للرياح الطليقة
عبس تنام وعروة يلقي قصائده
للنجوم البعيدة.. والليل أطول
عروة مشغول بخاطف برقه كي يطيل الرقاد على قصف رعوده وجريان أوديته.. إنها شغله الشاغل عن سلماه.. وعروة في الثانية يحدو لإبله وجياده.. يشنف أسماعها بقصيدة دون اكتراث بعبس المنسية وقد استسلمت للرقاد.. مرة هو ينام وسلماه يقظة.. وأخرى هو المستيقظ.. وعبسه نائمة.. تبادل نوم. وسهر.. دون سمر.. مجرد مقطع من القصيدة لا يتسع المجال لاستكمالها..
أبيات ثلاثة وأصيلة بنغمها. وجرسها وإيقاعها شدتني إليها بعد غياب:
ثلاثون براً. والنياق تشققت
حواصلها. والرمل يزقو ويرتد
ثلاثون. هل خاط الخليط حبالهم
أصابع؟ هل نالت على يدها نجد؟
دما في دمي نالت وفي كل مرة
أعاقرها نفسي. يعاقرني الوعد
من جد وجد.. ولن تبلغ الهدف حتى تلعق الصبرا.. الحياة في سعيها تحدي.. والرحلة في مشقتها وعنائه تجربة تتجاوزها الإرادة القوية حتى استسهلت الصعب.. ونجد التي نحبها بصحرائها نعاقرها ونعانقها لأنها نبت الخزامى. والنخل. والأثل.. لأنها الأهل..
وأبيات أربعة لها وجه ليلى الصبوح.. وطلعة سلمى المليحة.. وطرحة هند الزاهية. وطرفة طرفة ابن العبد:
دنوت إلى ليلى فوجهي لوجهها
شبيه وعند الكف تضطرب الكف
ثلاثون. هل آنست ناراً بمضرب
سوى نارها؟ هل كان لي بيدي عرف
أماطت لثام البرق فانهمرت يدي
وكان سوى زاهي قلائدها السدف
أبيات ذكرتني بالشعر الجاهلي.. والشعر الجزل لما بعده في عصر الخلافة والأمويين والعباسيين حيث الصياغة، والمفردات وأدوات التشبيه.
(النص الأسود) عنوان أتناول رقمه السابع:
كم امرأة خاصرت راحتي منذ مليون عام
كم امرأة مشطت اضلعي في المرايا
كم امرأة في بلاط الحدائق فزت على نفسي
كم امرأة عبرت بي الرصيف وغابت
ففتشت عن أضلعي في عراء الشوارع
لا أدري هل أراها استفهامات (؟) أم تعجب.. (!) في كلتا الحالتين يحسب إضافة العلامة الملازمة.. لفت نظري المرحلة الزمنية القصيرة جداً!
التي خاصرت فيه المرأة أضلع شاعرنا (!!) المليون عام أحسبها قصيرة وغير كافية أيا كانت المدة فالنهاية واحدة بقايا أضلع عارية ضاق بها الطريق لطول المدة.. ليس فيها ما يغري بالسرقة ولا أن تضم إلى متاحف ما قبل حياة الإنسان. ليت شاعرنا اكتفى بتسعين عاماً.. والتسعون كثير..
شاعرنا يعرف فارسة أحلامه عن نهار المطر وهو يتساقط على حي (الملز)
هل تعرفين الملز نهار المطر؟
نهار أسير وبي رغبة لعناق الشجر
لقد جرفتني..
ولم يبق مني سوى حجر سال
في شطرك الأول نيابة عنك أضفت علامة استفهام أما حكاية المطر الذي هطل بعد أن طال به الانتظار الطويل وكان قوياً إلى درجة أن جرفك في مجراه آخذاً معه كل شيء إلا ذلك الحجر الذي سال.. أخشى أن يكون مطرك مجرد حلم وأمنية تداعب خيالك.. أبواب السماء مفتوحة.. والزمن له دورته.. والمناخ له متغيراته والخير يجبى إلى وطننا كله من كل مكان.. المتاجر الكبيرة والصغيرة مليئة بثمرات المطر من بلادنا.. ومن خارج حدودنا.. ومع هذا المطر أتيته..
أخيراً مع مقطوعته العاشرة:
أي صباح يكون صباحاً إذا لم تمري على العمر مزحومة بالحياة؟
وأي مساء يكون مساء إذا لم تمري على العمر موحومة بالعنب؟
وأي هواء يكون هواء؟ وأي حياة تكون حياة؟
علامات استفهام كثيرة. ومثيرة الاجابة عليها ليست بالعسيرة.. الصباح رمز فأل وأمل متجدد حين نصنع منه عنواناً لحركتنا.
والمساء أيضاً نسكنه ويسكننا كي يمنحنا استراحة تجدد خلايانا وتنشطها كي لا تصاب بالخمول والكسل.. والهواء أوكسجين حياة نملأ منه حواسنا.. وداخلنا لأن وقود حركة تدور معها عجلة البقاء كي لا تتوقف..
هكذا أحسب..
أخيراً أقول لشاعرنا علي بافقيه كانت الرحلة معك شيقة وممتعة. وخفيفة الظل.. إنها أشبه بالطل الذي لا يمل.. رغم بعض رعود بعض قصائده التي لا تزعج لأنها ميلاد سحابة حب لا صب فيه.. انتهى..
علي بافقيه (217 صفحة من القطع المتوسط)
الرياض ص.ب 231185 - الرمز 11321 - فاكس: 2053338