|
حوار و إعداد : محمد بن عيسى الكنعان
كان حوار ضيفي (الجزيرة) في الجزءين الأول والثاني من موضوع (الاختلاط) حول تحرير المصطلح، ومدى اختلافه أو تطابقه مع مفهوم (الخلوة)، وكذلك الدلالة القرآنية عن الاختلاط، والأحاديث النبوية في هذا الشأن، إلى جانب استعراض بعض وقائع التاريخ المرتبطة بالاختلاط، وكذلك الموقف الفقهي.
وإكمالاً لما سبق يواصل الضيفان الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود وعميد كلية الشريعة بالرياض سابقاً، والدكتور أحمد بن قاسم الغامدي الباحث الشرعي ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة سابقاً، يواصلان الحوار في أبعاد أخرى تتناول تجلية واقعنا المحلي، من حيث هذا الموضوع الاجتماعي المهم وارتباطه بالشأن التنموي، ودور التقنية والعادات والتقاليد في هذا الموضوع، فإلى تفاصيل الحوار في الجزء الثالث والأخير:
الاختلاط في واقعنا
بعد استعراض التاريخ برواياته نتحول إلى الواقع بتجلياته، فمع أي رأي يقف تاريخنا المحلي بوقائعه الاجتماعية وأنماطه الاقتصادية، الاختلاط أم ضده ؟ يقول الغامدي:(في اعتقادي أن تاريخنا المحلي في جملته يقف مع القول بإباحة الاختلاط وخصوصاً من الناحية العملية، وما كان منه محل حرج اجتماعي لا يعد حكماً شرعياً، وتحكم العادة مع رواج القول بتحريمه محلياً عند بعض المتأخرين هو الذي عظم سبب امتناع بعض فئات المجتمع عنه اتقاء لذلك الحرج في واقعنا المحلي، ومع ذلك لا تجد لذلك المنع حظا كبيرا من قناعة الناس، خاصةً حين يتعلق بحاجاتهم فتجد كثيراً من مظاهر الاختلاط محل إقرار الناس له كأمر طبيعي، ومن هنا يتضح أن تفاوت حاجات الناس في المجتمع هي سبب كسر تلك العادة أو القناعة التقليدية بتحريمه، ولعل هذا أبرز أسباب تجاذب الاختلاط منعاً أو سماحاً في الكثير من أحوال المجتمع، فتاريخنا المحلي في الجملة صالح للقائلين بجوازه رغم الموقف المتشدد من البعض في الممانعة منه). في المقابل يرى الفنيسان خلاف ذلك ويقول: (واقعنا الحالي ممثلا بالأنظمة والتعليمات وتصريحات العلماء وأولي الأمر يصب كله في منع الاختلاط ونعتز ونفاخر به الآخرين من حولنا.
أما واقعنا الثقافي والإعلامي فمع الأسف الشديد يقف جنباً إلى جنب مع الاختلاط المحرم).
ولكن ألا يمكن أن يكون هناك الاختلاط مقبولاً إذا كان عارضاً، ومرفوضاً إذا كان دائماً ؟ الدكتور سعود الفنيسان يعتبر الوصف أساساً غير وجيه لأن الاختلاط مرتبط بواقع الحال، فيقول موضحاً: (وصف الاختلاط بالعارض أو الدائم غير وجيه ولا منطقي فقد يكون هذا الوصف عارضاً في حال وفي حال أخرى دائماً.
فضلا عن أنه غير منضبط ولا مطرد. كذلك الحال بالنسبة الدكتور أحمد قاسم الغامدي، إلا أنه مع ذلك يرى هذه المسألة من زاوية أخرى، فيقول: (لا أتفق مع هذا الرأي وأراه تحكم لا حجة عليه من الدين، بل ومتناقض أيضا لأنا لو أردنا أن نعترض على هذا التفريق لقلنا: إن ما يُسمى بالاختلاط العارض المفسدة المتوقعة فيه أكبر من المتوقعة فيما يسمى بالاختلاط الدائم (المقنن) لأن الاختلاط العارض لا يتوفر فيه من الرقابة الاجتماعية القدر، ما يتوفر في الاختلاط المقنن، فالمحيط الاجتماعي في الاختلاط العارض الرقابة الاجتماعية فيه أضعف بكثير من المحيط الاجتماعي الدائم، لأن الرجال والنساء حين يلتقون في المحيط العارض قد يحصل من أحد الجنسين نحو الآخر من الأمور ما ليس مقبولاً في ذلك المحيط العارض متى أراد لأنه لا يعرفهما أحد فيه فلا يخشيان من أحد في ذلك المحيط معرفة أنهما أجنبيان عن بعضهما بعضا، ولن يكون في ذلك المحيط العارض ما يزجرهما عما لا يقبل أو عن التمادي فيه أو الوقوع فيما هو أكبر منه بالتواطؤ على ما يريدانه بعد ذلك.
أما الاختلاط في المحيط الدائم (المقنن) فإن الرجال والنساء في ذلك المحيط يعرف بعضهم بعضا عينا أو اسما أو عينا واسما، فالرقابة الاجتماعية في ذلك المحيط أقوى من العارض بكثير وستكون زاجرة للجنسين عن الوقوع في شيء غير مقبول من أحدهما نحو الآخر فكل من في المحيط الدائم يعرف بعضهم بعضا، ولا شك أن أي خلل يقع من رجل أو امرأة سيسيء إلى سمعة المخل وسيؤثر على توقيره بلا شك، أضف لذلك رقابة الجهة المسؤولة عن ذلك المحيط المقنن فاجتمع في المحيط المقنن رقابة الفرد لربه ورقابة المجتمع لبعضه بعضا، ورقابة الجهة الإدارية المسئولة عن ذلك المحيط، وهاتان الرقابتان الأخيرتان ليستا في الاختلاط العارض، فالاختلاط المقنن على هذا النظر أكثر أمنا على الجنسين من الاختلاط العارض، إذ العارض لا يتوفر فيه من موانع الفساد إلا حاجز التربية وتقوى الأفراد لربهم، أما المقنن فيضاف له مع ذلك رقابة المجتمعين العارف بعضهم بعضا، ورقابة الجهة المسؤولة عن ذلك المحيط، فموانع الوقوع في المفسدة في المقنن إذا أكثر وأقوى مما هي في العارض، وعلى هذا فمن جوز العارض لاعتقاده أنه أقل مفسدة لزمه بعد التأمل أن يجيز المقنن لأنه في الحقيقة هو الأقل توقعا للمفسدة على هذا النظر.
كما أننا لو أردنا أن نسمي خروج النساء للصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد خمس مرات في اليوم والليلة اختلاطا مقننا لم يبعد ذلك، فما يُخشى في مواقع الدراسة أو العمل قد يُخشى مثله في الصلوات الخمس في المساجد ولم يمنعهن الشرع من ذلك بل نهى عن منع النساء المساجد، ومثل ذلك ما ثبت من خروج النساء في الجهاد فإن فيه اختلاطا لا يبعد عن كونه دائما فإنه يقتضي دوام بقاء النساء والرجال مدة من الزمن متواصلة ليلا ونهارا، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحال ولم ينه عنه، وفي هذا رد على التفريق في الاختلاط بعارض جائز ودائم غير جائز، فذلك تفريق لا أصل له، فالأدلة الصحيحة والأحوال المنقولة في السنة تدل على الجواز المطلق ولا حجة لمن فرق).
الاختلاط في حياتنا اليومية
نبدأ الحوار بسؤال حاضر في ذهن كل مهتم بموضوع الاختلاط، وهو: بماذا نفسر التباين في التعامل مع مسألة الاختلاط في مجالاتنا التنموية وممارساتنا الاجتماعية، فيقع منع الاختلاط في مكان ويسمح به في مكان آخر مثل حفلات التخرج والمنتجعات السياحية ومهرجانات الصيف والعيد وغيرها ؟
يجيب الغامدي: (الاختلاط في الأحوال الاجتماعية إما متوارث بين الناس أو مألوف وهذا لا يجد الناس في العمل به غضاضة غالبا، أما المجالات التنموية فأمر مستجد على مجتمعنا المحلى ظهرت الحاجة إليه وتوسعت حين تطورت مجالات التنمية في المجتمع فقبول الاختلاط في المجالات التنموية ليست كما هو في الأحوال الاجتماعية المتوارثة أو المألوفة، وكثير من الناس يعادي كل جديد ويعادي ما جهل، وسبق أن أوضحت لك أن تنازع تحكم العادات والقناعات الدينية التقليدية مع حاجة المجتمع في أمور يتعلق بها الاختلاط سبب رئيس في ذلك التباين، أضف لذلك ضعف التشريعات المقرة والمنظمة لبيئات العمل في المجالات التنموية وقصور تطوير القوانين الزاجرة عن التحرش في بيئات العمل في المجالات التنموية مع ضعف توعية المجتمع بكل ما يلزم لذلك). من جهته يرى الفنيسان ذلك بسبب الكتاب والمثقفين فيقول: (ما يحصل من التباين والتعامل اليومي في مسألة الاختلاط أرى أن ذلك يرجع إلى إثارته من قبل كثير من المثقفين والكتاب الذين يريدون لمجتمعنا المسلم مسايرة المجتمعات الغربية و ينادون بين حين وآخر بنبذ مبدأ خصوصية المجتمع السعودي ناسين أو متناسين أن الله اختار - للمملكة العربية السعودية- حيث فيها قبلة المسلمين واختصها الله بدعوى التجديد الإصلاحية: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وهيأ حكومة دستورها القرآن وملكها يتشرف بخدمة الحرمين الشريفين ومن يقصدهما. إن من ينازع بهذه الخصوصية لمجتمعنا إنما يخادع نفسه ويسبح مخالفا للتيار).
الاختلاط والعادات والتقاليد
في سياق ما سبق إلى أي مدى كان للعادات والتقاليد دور في تكريس عدم الاختلاط، وهل وجود أرباب العمل مع عمالتهم المنزلية من قبيل الاختلاط ؟.
الدكتور سعود يرى أن العادات والتقاليد ليس لها شأن، موضحاً: (العادات والتقاليد ليس لها دخل في شأن الحلال والحرام أو التشريع ومنه مسألة (الاختلاط) إلا عند أهل الأهواء أومن غلب عليهم الجهل والمغالطة).
على النقيض يعتبر الدكتور الغامدي أن العادات والتقاليد كرست رفض بعض صور الاختلاط، فيقول: (العادات والتقاليد كرست رفض بعض صور الاختلاط إلى حد كبير جدا كما أشرت سابقا، ولا شك أن وجود أرباب العمل مع العمالة المنزلية في البيوت كسائقين وخادمات وخدم صورة من صور الاختلاط بل هو من الاختلاط الدائم والمقنن كما يضيفه بعضهم كقيد فارق للاختلاط المحرم عن العارض الجائز عندهم).
من جانب آخر، ألا يمكن اعتبار أن وقوع الجرائم والمشاكل الاجتماعية في المجتمع مرتبط بمسألة الاختلاط أم مرتبط بغياب قوانين واضحة يتم تطبيقها بصرامة وعدالة ؟ يعتقد الغامدي أن المشاكل الاجتماعية مرتبطة بأسباب خارجة عن ذات الاختلاط، ويوضح ذلك بقوله: (في اعتقادي أن المشاكل الاجتماعية مرتبطة في الحقيقة بأسباب خارجة عن ذات الاختلاط، تعود في الأغلب لضعف القيم التربوية والوازع الإيماني أو لتساهل بعض النساء في العمل بما يجب شرعا من لبس الخمار والجلباب والتحلي بالحشمة وغض البصر والبعد عن أسباب الإغراء والفتنة، إضافة إلى ضعف القوانين الواضحة لضبط بيئات العمل وأحكام التحرش ولمن يخل بآداب السمت العام في المجتمع بصرامة، ولا تبعد صحة ما ذكره بعض التربويين من أن الغلو والإفراط في المنع والحجب ضاعف الكثير من سلوكيات التحرش والسلوكيات الشاذة والجريمة في المجتمع إذ كل ممنوع مرغوب، ولاشك أن الإفراط في المنع والمبالغة فوق ما يقره الشرع في أحوال المجتمع وما تقتضيه حاجات الناس قد يتولد عنه مالا تحمد عواقبه وقد حذرنا الشرع من الغلو غاية التحذيرحتى حرم ترك المباح تدينا).
أما الفنيسان فيحيل تلك المشاكل لعاملين يحددهما بقوله: (الجرائم والمشاكل الاجتماعية التي نشاهد تزايدها ترجع إلى عاملين أساسيين: الجهل بالشرع وأحكامه وآدابه.
والهوى ومحبة مسايرة البلاد الأخرى والمجاورة منها خاصة. وكفى بهما سوءا. أما الأنظمة المدنية أو النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في مسألة الاختلاط حكما وتحاكما فهي موجودة قائمة ولكن المشكلة مشكلة التطبيق، والتأويل تبعاً للهوى).
دور التقنية في الاختلاط
إذا كان الاختلاط موجوداً في مجتمعنا في بعض الحالات، ألا يمكن الاستعانة بالتقنية للحدّ من حالاته في التعليم كالشبكة التلفزيونية، وفي العمل من خلال الاجتماعات الهاتفية والمعاملات الإلكترونية ؟ الفنيسان يربط ذلك بوجود النيات الطيبة، فيقول: (إن التقنية ووسائل الاتصال الحديثة يمكن لو وجدت النية الطيبة والإدارة الجازمة أن تحدكثيرا من ظواهر الاختلاط السيئة وذلك عن طريق الاجتماعات الهاتفية والإدارة الكترونية والمناشط التجارية.
إن تجربة الجمعيات الخيرية عن طريق (الأسر المنتجة) شاركت في سد حاجة كثير من الأسر والبيوت الفقيرة، خاصة ً النساء).
غير أن الغامدي له رأي آخر وإن كان لا ينكر دور التقنية، فيوضح: (التقنية من الأدوات المساعدة على الحد من الاختلاط في بعض صوره لمن يريد الحد منه لكن تلك التقنيات ليست هي المانع الحقيقي من وقوع الخلل الأخلاقي في المجتمع، بل قد تكون تلك التقنيات إحدى وسائل تسهيل الخلل الأخلاقي إذا اختلت القيم لدى الأفراد، ثم ماذا لو لم تكن تلك التقنيات موجودة كما كان الحال في السابق هل كنا سنشترط الفصل في التعليم والعمل والتعامل في الحياة حتى لو أدى ذلك الاشتراط إلى توقف التعليم أو العمل أو التعامل عن بعض أبناء المجتمع وبناته لعدم توفر ما تتحقق به تلك المصالح مع ذلك الفصل المشترط، لا أعتقد أن ذلك صوابا ولن يكون ذلك حينها مقبولا).
الاختلاط في المجتمعات الأخرى
إذا كانت المجتمعات المسلمة المختلطة تأخذ من ذات المصادر الفقهية، التي نأخذ منها فكيف وقع فيها الاختلاط إذا كان مرفوضا فقهياً، وأيهما أكثر انسجاماً مع واقع المسلمين اليوم الاختلاط أم عدم الاختلاط ولماذا؟ الدكتور الغامدي يقول: (هذا يعارض القول بتحريم الاختلاط وينبغي أن يطرح على من ًيحرم الاختلاط ولا جواب لهم عليه، وفي اعتقادي أن الأكثر انسجاماً مع واقع المسلمين اليوم هو الاختلاط، وهو حال عامة بلاد المسلمين، وذلك مقتضى الواقع والفطرة والعقل ونصوص الشريعة المقتضية للإباحة قبل ذلك كله، فتوسع مقتضيات الحياة وتشعب شؤونها وحاجات الناس وشؤونهم في العلم والعمل والاتصال والسفر ومختلف الأمور يقتضي عدم المبالغة والغلو في المنع فوق ما تضمنته نصوص التشريع، وينبغي أن نعي أن ما كان في عداد الحاجات بالأمس أصبح اليوم نوعا من الضرورة، وقد توسعت المدنية وامتدت روافدها إلى مختلف نواحي المعمورة ولا شك أن في إلزام الناس بمنع الاختلاط المباح تضييق لما هو مباح وتعطيل لمسيرة المجتمع وتنميته). الدكتور الفنيسان
يختصر المسألة ويحيلها إلى علاقة كل مجتمع بمدرسته الفقهية وهيئاته الدينية بقوله: (المجتمعات المسلمة إذا كانت تأخذ بآراء وفتاوى علمائها المعتبرين فلا شيء على أهلها، أما تتبع الرخص بين المذاهب فلا يجوز والله أعلم).
على قافية ما سبق: كيف يتعامل المسلم المغترب في مجتمعات مختلطة، أو المسلم المقيم بحكم أنه من أهل ذلك المجتمع ؟ يُفصّل سعود الفنيسان بهذه المسألة ويقول: (المسلم المغترب والمقيم في بلد مسلم عليه أن يلتزم بما يراه بلده المضيف من أحكام وتوجهات وآداب ما دامت في دائرة الاجتهاد، أما المغترب في ديار الكفر فعليه أن يسأل ويتحرى أهل العلم في بلاده،
أو ما يشابهها كالمساجد والمراكز الإسلامية أو يسأل من يثق بعلمه وفتواه من غيرهم - بعد أن يعرفه بحال البلاد وأوضاعها وقوانينها إن لم يكن يعلم ذلك والله أعلم). أما أحمد الغامدي فلديه رأي يرتكز على القاعدة الفقهية أن الأصل في الأشياء الإباحة فيقول: (الإباحة هي ما نرجحه في هذه المسألة فالمسلم ذكراً كان أو أنثى يتعامل في المباح على أصل الإباحة فيه، وللفرد المسلم أن يمارس حياته الاجتماعية والعلمية والعملية وفي جميع شؤونه، وفي تلك الأوساط وفي كل البلدان والأماكن بصورة طبيعية، فلا يتجاوز فيها حدود الله ولا فرق بين تلك البلدان وبين غيرها وعلى المسلم الحرص على العفاف وغض البصر واجتناب الريب وأسباب الفتنة، والمرأة المسلمة عليها ذلك كذلك مع لبس الجلباب والخمار الذي فرضه الله عليها والاعتصام بتقوى الله باجتناب ما حرمه الله هو لباس التقوى فالخير كله في تقوى الله).