هذا الصحابي الجليل: عثمان بن أبي العاص الثقفي، ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تمكّن الإسلام من قلبه، قال عنه ابن كثير، كما قال عنه ابن الأثير: هو الذي منع أهل الطائف من الردة عن الإسلام، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأطاعوه عندما خطب فيهم قائلاً: كنتم آخر الناس إسلاماً، فلا تكونوا أولهم ارتداداً، وقد أمَّره أبو بكر الصديق، على قومه في الطائف مدة خلافته، ثم استمر سنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما.
وفي سنة خمس عشرة (15) استعمله عمر على عمان والبحرين، فسار إلى عمان، ووجه أخاه الحكم إلى البحرين، وسار هو إلى (توج) -وهي مدينة بفارس، فافتتحها ومصَّرها، وقتل ملكها (شَهْرك) سنة إحدى وعشرين..(أسد الغابة.. 3: 580).
وكان رضي الله عنه من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم خيار: يسمعون فيعملون، ويفهمون ليطبقوا، ولذا من محبته للجهاد في سبيل الله ونشر دينه الحق، أنه كان يغزو صيفاً ويشتوا بـ(تُوْجْ)، وقد بدأت النجابة تبرز عليه، منذ أن أسلم، رغم أنه كان أحدث قومه سناً، وكان أحرصهم على التعليم، واستيعاب القرآن الكريم، كما جاء في قصة وفد ثقيف، قال: (فلمَّا اسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابهم أمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص: على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن الكريم، فقال أبو بكر يا رسول الله إني قد رأيت هذا الغلام أحرصهم على التفقه في الإسلام، وتعلم القرآن.
وكان آخر ما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بعثه إلى ثقيف، حسبما روى عنه ابن الشخير قال: يا عثمان تجوّز في الصلاة، وأقدر الناس بأضعفهم، فإنهم فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة والصغير (سيرة ابن هشام 2: 541)، وقد نعته الذهبي بصفات، تدل على علوّ قدره، ورجاحة عقله، فقال في ترجمته لسيرة حياته: عثمان بن أبي العاص، الأمير الفاضل أبو عبدالله الثقفي الطائفي، قدم في وفد ثقيف، على النبي صلى الله عليه وسلم، في سنة تسع، وكان أصغر الوفد سناً، وجعله إمام قومه، فأسلموا وأمرَّه عليهم، ولما رأى من عقله وحرصه على الخير والدين، حين طلب منه ذلك، فقال له: أنْتَ امامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً، لا يأخذ على أذانه أجراً (أخرجه أبو داوود).
وقد ذكره الحسن البصريّ فقال: ما رأيت أحداً أفضل منه. قال الذهبي: له أحاديث في صحيح مسلم، وفي السنن، وكانت أمه قد شهدتْ ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم (سير أعلام النبلاء 2 :374).
وقد بسط ابن هشام في سيرته، قصة وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في السنة التاسعة من الهجرة، وإسلامهم، ومعهم عثمان بن أبي العاص، والمقدّمون في رهط، خشية أن يصنعوا بمن يسلم، كما صُنِعَ بعروة بن مسعود، الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، بعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك، حيث قتلوه وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيه: (إن مثل عروة في قومه، كمثل صاحب ياسين في قومه). وذكر ابن هشام في نهاية سيرة إسلام وفد ثقيف، نصَّ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كتبه لهم: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله النبي، إلى المؤمنين: إن عضاه (وج) وصغيره لا يعضد، من وجد يفعل شيئاً من ذلك، فإنه يُجلد وتُنزع ثيابه، فإنْ تعدّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به النبي محمد، وأن هذا أمر النبي محمد رسول الله، وكتب خالد بن سعيد بن العاص: بأمر رسول الله محمد بن عبدالله، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه، فيما أمر به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السيرة النبوية لابن هشام 4: 182 - 187).
وقد سكن البصرة في آخر عمره، وبقي فيها إلى أن توفي عام 51هـ، قال الزركلي: وفي البصرة موضع يقال له: شطر عثمان منسوب إليه (الأعلام: 4: 368).
وقد حدّث عنه جماعة من أهل البصرة، كما حدّث عنه سعيد بن المسيب، ونافع بن جبير بن مطعم، ويزيد ومطرّف ابنا عبدالله بن الشخير، وموسى بن طلحة.
وذكر الذهبي أن عثمان بن أبي العاص: بعث عُمّالاً له تجّاراً، فلما جاؤوا قال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: جئنا بتجارة يربح الدرهم عشرة، قال: وما هي؟ قالوا: خمر؟! قال: خمر وقد نهينا عن شربها وبيعها، فجعل يفتح أفواه الزِّقاق.. ويصبّها (سير أعلام النبلاء 2: 275).
وما ذلك إلا من اهتمامه وحرصه، على تنقية دينه، وتطهير عمله ومكسبه المالي، لأن الله سبحانه يقول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى } (الضحى الآية4)، ومرتبة الإحسان تعني مراقبة الله في السر والعلن، (فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وفي اهتمامه بالإرشاد والتعليم، والدعوة والتبليغ، لأن أمانة العلم توجب عليه ذلك، فنرى ابن الأثير، يردد له حكاية، تتضمن نشر ما أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون كاتماً للعلم، فيدخل في الوعيد الشديد، حيث يقول بسنده إلى لقيط بن عبدالله، قال: مر عثمان بن أبي العاص، بكلاب بن أميه، ابن الأسكر وهو بالأبلّه، بلدة على شاطئ دجلة، فقال له: ما يحبسك ها هنا؟ قال على هذه القرية؟ قال عثمان: أعشار؟ قال نعم، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا انتصف الليل، أمر الله تعالى منادياً ينادي: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع؟ فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه. فما تُرَدّ دعوة داع، إلا زانية بفرجها، أعشاراً).
أخرجه الإمام أحمد، وأخرجه الثلاثة، (أسد الغابة 3: 581)، ومن اهتمام عثمان بن أبي العاص، ورغبته التفقه في دينه، نرى الكتاني في كتابه: معجم فقه السلف، يجعله من فقهاء الصحابة، ويورد له بعض المسائل، علاوة على الاستدلال بما وعاه، من نص شرعي، ففي أكثر النّفاس روى عن عثمان بن أبي العاص أنه أربعون يوماً، وبه قال عدد كبير من الصحابة، منهم عمر وأم سلمة، وأنس بن مالك وابن عباس.
أما الأوزاعي من اتباع التابعين، فقد روى عنه القول عن أهل الشام، تنتظر النفساء من الغلام ثلاثين ليلة، ومن الجارية أربعين ليلة، ودليل عثمان ومن يرى رأيه، من الصحابة ومن جاء بعدهم، حديث انس بسند ابن حزم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر النّفاس من أربعين يوماً) «معجم فقه السلف: 1-124».
وفي الصيام في السفر: أيهما أفضل الصيام أم الفطر؟.. كان عثمان بن أبي العاص، وابن عباس: يريان الصوم أفضل، ونقل هذا قولاً وفعلاً عن بعض الصحابة، وأبان: أنس بن مالك التوضيح في ذلك، فقال: إن أفطَرتَ فرخصة الله تعالى، وإن صمت فالصوم أفضل، وحجة القائلين بهذا: ما جاء عن طريق أبي سعيد وجابر، كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، وبفعل وفهم بعض الصحابة، كان عطاء يفتي قائلاً: إن شئتَ فصم وإن شئتَ فأفطر (معجم فقه السلف 3: 82).
ولما كان عثمان بن أبي العاص، مقيماً في آخر عمره بالبصرة، فإنه لما كان أراد الحج أحرم من (المناجشانية) منزل لمن خرج من البصرة، للحج بقرب البصرة، وبمثل هذا روي عن عمران بن الحصين، وابن مسعود وابن عمر.
ودليلهم فهم علي بن أبي طالب للآية الكريمة {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ...} (البقرة 196)، فقال: إن دويرة أهلك، لكن عمر بن الخطاب، عاب على عمران بن الحُصين، وغضب منه وقال: أردتَ أن يقول الناس، أحرم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصر من الأمصار. (معجم فقه السلف 4: 102).