تتباين مـواقف المذاهب الأيديولوجية والعقدية العالميــة مـــن «المصلحة».. فالرأسمالية، كمـــا هو معروف، قائمة على تحقيق المصلحة الشخصية الخاصة دون الاكتـــــراث بالمصلحة الجماعية غالباً، والاشتراكية جاءت على النقيض، فهي في الأساس تلغي المصلحة الفردية تماماً ولا تعترف إلا بالمصلحة الجماعية، أما الإسلام فينصُ على وجوب احترام كلتا المصلحتين: الفردية والجماعية، ومتى تعارضتا فمصلحة الجماعة تقدم على المصلحة الفردية، والأمثلة في هذا الباب كثيرة، ولعل من بين الأمثلة المعاشة «تعدد الزوجات في الإسلام» إذ إن هذا الدين غض الطرف عن مصلحة المرأة « الفرد» لمصلحة جميع النسوة اللاتي هنا الأكثر في المجتمعات الإنسانية غالباً.. ولكون الأمر مبنياً على «المصلحة» فإن هذه المسألة تعد - في نظر البعض- إشكالية مجتمعية تباينت حولها الدساتير العربية، وتناقضت فيها الآراء الفكرية مع أن النص الشرعي فيها واضح وصريح «قطعي الدلالة قطعي الثبوت».. وكما كانت في الماضي العربي « إشكالية» فهي اليوم من الإشكاليات المطروحة في الساحة الثقافية وبقوة، خاصة بعد الموقفين المتناقضين «الليبي والتونسي» من هذه القضية، ففي الوقت الذي يقرر فيه المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي في يوم إعلان تحرير ليبيا العودة للعمل بنظام تعدد الزوجات وفق الشريعة الإسلامية، في هذا الوقت يصرح الناطق الرسمي باسم حركة النهضة الإسلامية الأستاذ «علي العريض» (إن تبني موضوع تعدد الزوجات ليس واردًا في البرنامج السياسي لحركته، وإنها لا تعتمده حلاًّ من حلول مشكلة العنوسة). ويؤكد «للعربية» أنه (ليس لنا أي نية لمراجعة تعدد الزوجات، لأن التعدد مشروط في الفقه بشروط كثيرة، ولولي الأمر إذا رأى سوء استعمال حق أن يقيده).
وأوضح في حديثه المتلفز أن الحركة (تحترم النمط الاجتماعي، وفي تونس جرى العمل على أنه لا وجود للتعدد، وسنحافظ على الأسرة التونسية المكونة من زوج وزوجة وأطفال).
ومما ذكر في هذا اللقاء (أن الدين الإسلامي واحد، وقراءته متعددة، وهو يتأقلم مع كل مجتمع بخصائصه والمرحلة التي يتطور بها، ونحن نريد الحفاظ على المكاسب الموجودة وإصلاح التجاوزات)!!.
الشاهد أن هذا التناقض أعاد من جديد طرح «تعارض المصلحتين في الشريعة الإسلامية» على الساحة الثقافية العربية!!، وفي الداخل أعادت فتوى سماحة المفتى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بحرمة الحج بلا تصريح لأنه نوع من التحايل على التعليمات المنظِمة للحج من جانب الدولة ومخالف للشرع ولولى الأمر من جانب آخر.. أقول إن هذه الفتوى المبنية على تقديم مصلحة مجموع الحجاج على المصلحة الفردية أعادت هي الأخرى موضوع تعارض المصالح لساحاتنا الثقافية ومجالسنا الجدلية ونقاشاتنا الإلكترونية وحواراتنا الفضائية وتباينت المواقف حولها بشكل فج، وربما كشفت أرقام الحجاج بلا تصريح، وكذا من تم منعهم من قبل الجهات المختصة والتي صدرت من الجهات الرسمية، فضلاً عن التعليقات والمنتديات.. كشفت هذه وتلك رأي جمع من الناس « الذين يعلمون حرمة التقرب إلى الله بما حرم عليها» في مثل هذه الفتاوى المبنية على تقدير المصالح والأدلة العامة دون أن يكون ثمة دليل مباشر خاص بالمسألة محل النزاع..
ودون الدخول في تفاصيل ردود الفعل القولية والفعلية وما ترتب على هذه الفتوى من حرج لدى الطبقات الوسطى فضلاً عن الفقيرة خاصة في ظل ربط منح التصاريح بالتسجيل في الحملات المصرح لها التي بالغت في الأسعار وأجهضت أحلام شريحة عريضة كانت قد عزمت على الحج هذا العام!!
أقول -دون الدخول في هذا الأمر- فإن الأحكام الفقهية ذات المساس المباشر بالمصالح تختلف باختلاف الواقع وحسب المعطيات والظروف التي يدركها العلماء الربانيون أهل الدراية والمعرفة بالدليل من جهة وبالواقع وملابساته من جهة ثانية، ومن نافلة القول هنا أن الفتوى «المصلحية» قد تتباين من عالم لآخر فضلاً عن اختلافها باختلاف الزمان والمكان والحال والإنسان، وهذا دليل على صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ولكن يبقى سؤال مهم هنا.. ترى: هل وصلت صورة الواقع بكل تفاصيله للموقع عن الله المفتى في مثل هذه المسائل التي تتعارض فيها المصالح بشكل لا يمكن الجمع بينها، وهل بالفعل هذا هو الحل لإشكالية الافتراش والزحام؟ أم أن هناك حلولاً أخرى يجب على معهد أبحاث الحج دراستها ومن ثم تقديمها بكل تفاصيلها للجهات المخولة بالفتوى حتى يتسنى رفع الحرج عن الجهات الأمنية التي تتعقب هؤلاء الحجاج وتضع نفسها تحت طائلة «منع عباد الله أسقط فريضة الحج عنهم» كما يقول جمع من الناس سواء بلسان المقال أو الحال؟؟!!
دمتم بخير.. وإلى لقاء والسلام.