لحظة يا أبي، تمهّل لا تمت، حتى نجد لك درجًا شاغرًا في ثلاجة الموتى، أتخيل أنني أقول ذلك لأبي من على سرير الموت في مستشفى حكومي، فيجيب وهو ينازع الرمق الأخير: أموت أحسن حتى أعطي سريري لمريض يتألم على بوابة المستشفى وهو ينتظر سريرًا شاغرًا.
بكل أمانة، أشعر أحيانًا، أننا نشبه ذلك المواطن العربي الذي فقد جواز سفره بين حدود دولتين، كما في فيلم «الحدود» لدريد لحام، فلا هو مواطن هنا، ولا مواطن هناك، أو مثل «توم هانكس» في فيلمه البديع «الصالة» وقد تشرنق في صالة أحد المطارات كحشرة، فلم يعرف أن يحصل على ختم الدخول، ولا يملك قيمة تذكرة العودة إلى بلاده. هكذا نحن، لا نعرف ماذا نفعل، إذا مرضنا فلن نجد سريرًا في مستشفى يعتني بنا، وإذا وجدنا سريرًا فلا نضمن أن نبقى فيه حتى نشفى أو نموت، وإذا متنا فليس بالضرورة أن نجد مكانًا لجثثنا في ثلاجة الموتى! معقول؟ أي والله، هذا ما يحدث في مستشفيات تابعة للشؤون الصحية بمنطقة جازان، فقد تكدّست الجثث في المستشفى حتى بلغ عددها مائة جثة، ولكن - ولله الحمد والمنة - يقول مدير الشؤون الصحية في جازان إنه يجري إنشاء العديد من الثلاجات بمستشفيات بيش، وأحد المسارحة، والطوال، وفيفا، والموسم... إلخ. اللهم أكثر ثلاجات الموتى عندنا، فقد كنا نبتهل قبل سنوات بأن تكثر المستشفيات، وأخشى في المستقبل أن لا ندعو بأن تكثر الثلاجات، بل أن تتوافر المقابر التي نرمس فيها جنائزنا.
قبل سنوات كتبت قصة قصيرة، متخيّلة طبعًا، عن أبي الذي احتفظ به المستشفى في ثلاجته لأننا لم ندفع تكلفة إقامته وعلاجه، وحين أعود الآن إلى القصة، أجد أن أبي المتخيّل كان محظوظًا جدًا، لأنه كان على الأقل يحتل مساحة درج في ثلاجة الموتى، وهذه أصبحت الآن نعمة يُحسد عليها، لأن غيره لا يجد مكانًا بسبب تكدّس الجثث في الثلاجات!
يا مديري المستشفيات في بلادي، يا مديري الشؤون الصحية في المناطق، يا وزير الصحة، نحن إذا مرضنا ولم نجد مستشفى يستقبلنا نستطيع أن نصرخ ونطالب ونحتج، لكننا إذا متنا فهل تتوقعون أن تخرج جثثنا من الثلاجات تجرّ أكفانها خلفها وهي تصرخ بوجوهكم: يا ناس حرام عليكم ادفنونا؟
للميت حرمته يا سادة، وتعجيل دفنه أمر يحض عليه ديننا، فلا تعطلوا أمرًا يحض عليه الدين والإنسانية، فللميت حق واجب في مساحة مترين من أرض بلاده، بعد أن حلم عمره كله ببضعة أمتار لمنزل يؤويه!
كأنني أرى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وأسمعه جيدًا، وهو يردّد بصوت كله السخط والحزن: ونمشي في الشوارع باحثين عن السلامة/ من سيدفننا إذا متنا/ عرايا نحن/ لا أفق يغطينا ولا قبر يوارينا.