أمم كثيرة بادت، كانت متنوعة الأعراق والثقافات منها ما ائتلف وعاش حياة رغد وعيش كريم، ومنها ما اختلف وأضحى في حرب وبؤس مستديم، والخيار بين الاثنين كان قائماً ولكن البصائر تختلف، وتقود أصحابها إلى الخير والعافية، أو تقودهم إلى مرتع وخم، وما كان الله بظلام للعبيد.
وأمم حاضرة متباينة الأعراق والثقافات في الشرق والغرب، استفادت من تنوع أعراقها وثقافاتها وظلت تجني ثمار ذلك التنوع ردحاً من الزمن، والشواهد في ذلك كثيرة، وهناك أيضاً أمم متجانسة الأعراق والثقافات مثل اليابان والصين ومع هذا فقد ساهمت مساهمة كبيرة في الاقتصاد العالمي، وأثرت المجتمع الدولي بالكثير من المخترعات المفيدة في الحياة اليومية.
وقد يقول قائل إن الصين متنوعة الأعراق لأنها تشمل نحو ست وخمسين قومية مثل هان، وخوي، التبت، واليوجور، ولكن علينا أن نتذكر أن قومية هان تمثل أكثر من تسعين في المائة من إجمالي السكان، مما يجعل الصين بشكل عام متجانسة في عرقها، وإن اختلفت في لسانها بين الجنوب والشمال اختلافا مقبولاً، كما أنها متجانسة في ثقافتها، ما عدا الإسلام الذي يعتنقه عدد كبير من الصينيين، إلا أن عدد الصينيين الذي يفوق المليار وثلاثمائة مليون نسمة، يجعل نسبة المسلمين في الصين ليست بالكبيرة، مع أنها تمثل رقماً كبيراً جداً، ومرتبة متقدمة في العالم الإسلامي، نظراً لتكون العالم الإسلامي من دويلات متناثرة هنا وهناك.
ومع أن التقارب الجغرافي والتجانس اللغوي في كثير من الدول الإسلامية قائم، إلا أن التناحر ربما يكون سائداً في بعض الحالات مما يعني أن هناك بصائر تحتاج إلى بصيرة منصفة وعادلة حتى لا يقود العميان المبصرين، كما قال بشار بن برد:
أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم
قد ضل من كانت العميان تهديه
وسيظل النظر الثاقب والبعيد المدى، الأداة الوحيدة للعيش بكرامة وأمن وأمان، إذا كانت النظرة العامة والخاصة متجهة إلى التنور والتفتح ونبذ الكراهية والحقد، فإن حمل الأمور على ما لا تحمل، وترك الخيال ينسج خيوط العنكبوت الواهية حول أوهام باطلة تجر الكثير من المآسي على الأمم والشعوب.
دعونا من واقع الحال، والعودة إلى بلد حل فيها التنوع وصال وجال، وهي الأندلس الإسلامية التي لم تعد قائمة، وإن ظل أثرها، وبقي عرشها، وطاب درسها.
فقد كانت ذات أعراق مختلفة، من عرب وبربر وقوط وصقالبة، ورماند، وغيرهم، ومع هذا فقد وجدوا ببصائرهم أن من الأجدى التعايش فكان ما كان، ودامت ردحاً من الزمن تحمل راية العلم والثقافة، وجسراً لنقل العلوم التي ينعم بها الغرب والعالم ليومنا هذا.
حتى في الحب كان التنوع بها سائداً وقد ذكر ابن حزم في كتابه طوق الحمامة الكثير عن أنواع الحب والعشق والهيام، وأبدع شعراء الأندلس في التعبير عما يختلج في قلوبهم ومن ذلك ما قال ابن زيدون:
سأقنع منك بلحظ البصر
وأرضـــى بتســــــليمك المخــتصــر
ولا أتخطى التماس المنى
ولا أتعدى إختلاس النظر
أو ما قاله ابن زهر في إحدى موشحاته الرائعة التي قال في مقطع منها:
ليــس لـي صـــبر، ولا لـي جــلـــــد
يالقومي! عذلوا واجتهدوا
مثل حالي حقه أن يشتكي
كمد اليأس، وذل الطمع
وهم لذلك ينوعون في شعرهم ونثرهم والتعبير عما يدور بين جنبات ضلوعهم، مثل تنوعهم العرقي والثقافي، ولهذا فقد ملأوا الدنيا في زمانهم بما أسدوه للعالم من حضارة ومدنية ظلت مضرب الأمثال للعالم أجمع، وكان المبدعون في ذلك خليطاً بين مسلمين مثل ابن زيدون وابن خفاجه وابن الخطيب، ويهود مثل ابن سهل وابن حداي، ومستعربين مثل ابن قسي.
يقول ابن سهل الإسرائيلي الأشبيلي:
أبيــت أهتــف بالشكوى، وأشـــرب مــن
دمعي، وانشق رياً ذكرك العطر
حتى يخيل أني شارب ثمل
بين الرياض، وبين الكأس والوتر
واستمر في وصف الخد، والخال، والعين، إلى أن قال:
بعــض المحاسن يهــوى بعضها طــرباً
تأملوا كيـــف هام الغـــنج بالحـــور!
وحتى لا نطيل نكتفي بما قيل.