يحتاج الإنسان إلى ساعات صفاء ذهني، يجدِّد خلالها الارتباط بخالقه: عقيدة وعملاً؛ حتى لا تكل النفوس فتمل.
وهو عندما يكون في رحلة جوية طويلة معلقاً بين السماء والأرض، وفي الغالب هذه الرحلات ليلاً، فإن هذا من أوقات الصفاء الذهني، والشعور بضآلة الإنسان في هذه الحياة وعظمة الخالق سبحانه
وأن الأمور يجب تسليمها لبارئها بصدق وإخلاص؛ لذا فهو في حاجة إلى ما يلين القلب، ويثير كوامن النفس عقيدة؛ ليمثلها عملاً.
ولقد أحسنت الخطوط السعودية صنعاً عندما أوجدت أشرطة مسجَّلة من القرآن الكريم لمجموعة من القراء، يستمع إليها المسافر في هذه المسافات الطويلة، وفي هدأة الليل، خاصة أن تلك الرحلات لا تتم إلا في الليل كعُرْف دولي؛ فيهنأ المسافر، خاصة القاصد والمغادر الأماكن المقدسة، عمرة أو حجاً وزيارة، بجو روحاني مستلهم من مقصد الرحلة ذهاباً للديار المقدسة؛ حيث يستلذ بتذكر مسيرة الجحافل الكبيرة التي قطعت المسافات الطويلة من أجل نشر دين الله.
وفي عودته لديار قومه وأهله يستعجل المسيرة فرحاً بلقاء الأهل والأحبة؛ ليخبرهم بما أعجبه في مهد الرسالة، ولكي يوضح ما شاهد ورأى من أمور بذلها حماة الحرمين لتذليل الصعاب أمام ضيوف الرحمن.. ونِعْم الضيافة.
جاعلاً أفكاراً تسبق حلوله في دياره؛ ليزيل من أذهان كبار السن ما كانوا يعانونه في رحلاتهم الطويلة للحج والزيارة، إخباراً للمشاهد، الذي يتحدث عن إعجاب مثنياً على الجهود المبذولة من قلوب لا يريدون أجراً إلا من الله.
فكان من مساهمة الخطوط تيسير ما يربط المسافر، وهو معلَّق بين الأرض والسماء، بخالقه، ويشعره بضآلته وكمال عظمة رب السماوات والأرض، وهو في رحلته التعبدية الوجدانية؛ ليشكر ربه على ما يسَّر له، وهو في حالة يشعر فيها بهوان الخلق على الله، وضعف الإنسان أمام قدرة خالقه جل وعلا؛ فيعمل فكره تدبراً في هذا الفضاء الواسع والملكوت الذي يقصر عقله عن إدراكه.
يبرز هذا لمن أراد أن يتدبر، عندما يتطلع إلى الفضاء الفسيح من خلال الزجاج، وعندما يسمع من التسجيلات المتاحة آيات كثيرة في أهمية التفكير في عظمة الخالق، وعظمة مخلوقاته، ومنها قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص29)، وهذا من باب التفكر الذي قال فيه بعض السلف: تفكر ساعة خير من عبادة دهر.
وعندما يحدد المذياع في الطريق إلى جدة من أي جهة كانت فإنما هو تذكير لكل من أراد الحج أو العمرة بالتهيؤ بما يجب عليه نية وعملاً، ويجد المسافر كرامة الضيافة، متمثلة في القهوة والتمر، وهي عادات عربية إسلامية أصيلة، كما قالت عائشة لابن أختها عبدالله بن الزبير «يمر علينا الشهر وشهور عدة ما يوقد في بيت رسول نار»، فقال: وما طعامكم؟ قالت: «الأسودان: التمر والماء».
وتحرص الخطوط على تأصيل أمور هي من الشيم العربية الإسلامية، حبذا لو لازمها صدق في المواعيد في الحجوزات والسفر.
والذي أحب طرحه أيضاً للمناقشة ما هو إلا جزء من استكمالات تهمُّ المسافر، حبذا مراعاتها بقدر الاستطاعة:
1 - الإعلام بمواعيد حلول أوقات الصلوات خاصة لأهميتها، وأنه يمكن تحديدها بيُسر وسهولة بحسب الأرض التي تحت الطائرة، ومن ثم إعلانها للمسافرين؛ حتى تؤدَّى في وقتها الذي حان.
2 - حبذا لو عملت نشرة أو أشرطة عن الصلاة في الطائرة، يراعى فيها الكيفية والاتجاه وتكبيرة الإحرام وكيفية الصلاة على الكرسي وتيسير التيمم لمن لا يستطيع الوضوء، وما إلى ذلك.
3 - إرشاد المسافرين باتجاه القبلة، ولا يكفي ما يوجد على الشاشة؛ لأن الغالبية لا ينظرون إليها، ولأنها تتغير مع اتجاه الطائرة في مسيرتها، والتنبيه إلى الصلوات التي تُجمع، ووقت الجمع فيها، بين التقديم والتأخير في وقت أحدهما.
4 - وقد يكون من ميزة الخطوط السعودية وجود بوصلة في أماكن عدة بالطائرة، في الدرجة الأولى والسياحية؛ لتحديد اتجاه القبلة، تُذكِّر الناس، وتعين المتكاسل بما يجب أن يسأل عنه حيال القبلة والطهارة وكيفية ما يجهله الناس، ولا يجب أن نفهم إدراك الناس لذلك لأنه من البديهيات، بل نفترض الجهل من بعض الركاب.
5 - وبالنسبة للقبلة بعض العلماء يبرز للحيطة الاتجاه وفق الآية الكريمة: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} (البقرة 115).
6 - يجد المسافر للعمرة أو الحج داخلياً وخارجياً المتجه إلى جدة حرجاً في تغيير ملابسه والإحرام؛ فحبذا لو خصصت أماكن لتبديل الملابس قرب دورات المياه في المطارات وقرب صالة السفر؛ لأن تبديل الملابس في داخل الطائرة أو في ساحة المطار غير مناسب لضيقها ولعدم تهيئتها لمثل ذلك، ولأسباب تتعلق بالأشخاص من خصوصياتهم.
7 - قبل سنوات عدة كان لباس المضيفات أكثر حشمة؛ فحبذا يكون لنا منطلق من تعاليم ديننا دون تقليد؛ إذ بعض الخطوط تعرف بلباس المضيفات المتميز، ويجب في تميزنا أن يتأثر الآخرون، دون أن نتبعهم بالتقليد كما يروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «نحن أمة أعزنا الله بالإسلام ومتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».
8 - وقد أعجبني في رحلة منذ أشهر من الرياض إلى نيودلهي، وبالعكس، وجود مضيفة كبيرة في السن تصلي تهجداً في مكان بين الدرجة الأولى وغرفة القيادة بخشوع، وكانت كلما صلت ركعتين مرت بالركاب في الدرجة الأولى لإجابة طلباتهم وتفقدهم ثم تعود لمكان عبادتها بهدوء وطمأنينة ووقار، جامعة بين العمل والقدوة الحسنة. ولم يعرف الركاب بالدرجة الأولى موعد صلاة الفجر واتجاه القبلة إلا منها. إن مثل هذه المرأة تركت أثراً لدى من عرف عملها من الركاب، وانطباعاً حسناً في رحلة الحج أو العمرة للمسافرين على السعودية إيحاء من روحانية الديار المقدسة.
وإن من المناسب التحدث عن الكعبة المشرفة في هذا الحيز:
فالكعبة التي يؤمها المصلون ليجعلوها قبلتهم خمس مرات في اليوم والليلة يهم كل مسلم تعظيمها، وأن يعرف عنها بعض الأولويات، في الكسوة والعناية؛ حيث يرمز هذا لما تكنه قلوب المسلمين من مكانة ومحبة وما يولونها من عناية. وكتب التاريخ والسير التي رصدت الأحداث تثبت أن:
1 - أول من فرش الكعبة بالرخام وجعل إزاراً لجدرانها الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك.
2 - وأول من كسا الكعبة المشرفة قبل الإسلام: عدنان جدّ العرب العدنانيين؛ إذ كساها الأنطاع.
3 - وأول من وسع المطاف، وجعل صحن الحرم جزءاً منه، وفرشه بالرخام الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله -.
4 - وأول من كساها في الإسلام محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كساها الثياب اليمانية، ثم كساها عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - القباطي، ثم كساها الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراق لعبدالملك بن مروان الديباج.
5 - أما أول من كساها من آل سعود هو الإمام عبدالعزيز بن محمد، في أيام الدولة السعودية الأولى، ثم استمر الأمر بصفة آكدة منذ الأيام الأولى التي دخل فيها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - مكة المكرمة في عام 1343هـ، واستمر ذلك حتى الآن؛ حيث شرف الملوك السعوديون بخدمة الكعبة.
6 - وأول من أقام مصنعاً بمكة لكسوة الكعبة المشرفة وصناعتها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - في حدود عام 1345هـ، ثم طوره الملك فيصل - رحمه الله - في حدود عام 1384هـ، ووسعه وزاد فيه الأيدي الفنية.
7 - أما أول من اهتم براحة الطائفين وكسا صحن المطاف والسطوح ببلاط عاكس للحرارة فهو خادم الحرمين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -؛ حيث أولى الحرمين الشريفين عناية خاصة في التوسعة والتعمير والمتابعة.
8 - وأول من اهتم بسقيا زمزم وهيأ له جهوداً عالية في التنظيم والمحافظة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، وقد أمر بدراسة مشكلة الزحام في المطاف، وتوسعته من أجل راحة ضيوف الرحمن.
وهذا يدل على اهتمام الدولة السعودية منذ طورها الأول حتى الآن بالعناية ببيت الله الحرام واحترام الأماكن المقدَّسة وخدمتها بمشروعات جبارة لم يُعرف لها في التاريخ نظيرٌ، وبُذلت الجهود في توفير المشروعات التي تفيد وتريح الحجاج والمعتمرين والزوار، وتجعلهم يؤدون عباداتهم في راحة نفس ويسر وسهولة بالتوسعة والتنظيم والخدمات.
وهذه سجية فيهم غير محدثة كابراً بعد كابر توارثوها، وتأصلت في قلوبهم، ولهم أعمال أخرى كبيرة.