تنهد بعمق وهو يطلق زفرة ساخنة حارة من أعماقه
فكل شيء يبدو مختلفا منذ أن انشق فجر هذا اليوم، فالحركة دائبة في السجن استعدادا لتحرك سيارة الترحيلات التي ستقله ومجموعة كبرى من زملائه للمحاكمة
إنه يوم النطق بالحكم الذي يؤرق كل من هو في مثل حالته
يشعر بأن هذا اليوم سيغير مسار حياته تماما
وضعت الأغلال في يديه وانطُلق به في سيارة تتمايل يمنة ويسرة بينما يتصاعد دخان السجائر من حوله يكاد يخنقه
يشعر بأن السماء تكاد تنطبق على الأرض فكل ما حوله يضيق عليه ولم تعد نفسه تتحمله ولا تقوي قدماه على حمله
لا يدري كم مضى عليه في محبسه في انتظار المحاكمة ولكنه الآن لا يهتم بما مضى بقدر اهتمامه بما بقي منها
يسترجع ذكرياته المريرة التي أتت به إلى هذا المكان
المرارة تملأ حلقه وتتصاعد مع هزات السيارة التي تشق الأرض متخطية بكل عنف كل ما حولها في طريقها وكأن الكون كله يتعجل النطق بالحكم عليه
وبنفس العنف الذي كانت تسير به وقفت تلك السيارة الكئيبة أمام المحكمة
ووجد نفسه يُساق، والحراس من حوله عن يمينه ويساره، والقيود في يده تضغط بشدة عليها، ودُفع مع غيره في محبس داخل قاعة المحاكمة
انفرد بنفسه شريدا، لم يشعر بمن معه ولم يشعروا به فكلهم يخاطب من خلف الأسوار مَن جاءوا من أجلهم، من يهتم بهم، ومن ينتظر خروجهم أو من يتلهفون لنظرة واحدة لهم
أما هو
لم ينتظره أحد
لم يكلمه أحد
لم يهتم بوجوده أحد
لم يأبه بوجوده أحد
كما لم يهتم بغيابه أو ينتظر خروجه أحد
تفحص الحاضرين جميعا، نظر في أعينهم لعله يجد عينا تبحث عنه فيساعدها بنظرة منه
ولكنه لم يجد
تفحصهم مرة ومرة ومرة
ويرتد إليه طرفه كل مرة كأول مرة بنفس الحسرة والألم والحزن
يأس من كثرة المحاولة
ألهذه الدرجة هان على الدنيا فراقه ولم يعد له من يهتم بوجوده أو بغيابه؟
وفي محاولة يائسة منه أعلن لنفسه أنها المحاولة الأخيرة
إذا به يري عينين تعلقتا به ترمقانه بكل اهتمام
أرخى بصره ثم أعاده ليتأكد
فوجدهما على نفس الحال
عينان تنطقان بحزن دفين بلهفة غامرة بشكوى مضنية
ترى من صاحبة تلك العينين؟
وترى لمن جاءت متلهفة شاكية باكية؟
إن عينيها لا تتحولان عنه كأنها تعرفه منذ زمن بعيد أو يعرفها
عيناها تسأله عن أحواله
منذ زمن طويل لم يسأله أحد عن أحواله
أجابها مطمئنا
لا تقلقي سأكون بخير
وجودك بجانبي يشعرني بالأمان وبغد مشرق
سأغير كل أحوالي وأفعالي السابقة
نعم أنا من أتي بي إلى هذا المكان ولم يأت بي أحد
لم يجن علي أحد فأنا من جنيت على نفسي وعلى غيري
أعدك سأخرج من هنا إنسانا آخر
أكون فيه على ما تحبين وكما كنت تتمنين
إني سجين الآن
بيني وبينك أسوار وحواجز وقيود
لا أستطيع التقدم أو الاقتراب
لم لا تحاولين أنت؟
أنت حرة الآن
تنهدت فأحرق قلبه تنهدها وقالت:
كلانا سجين
لست حرة طليقة كما تظن
قيدي أعظم من قيدك
سوف يحكم عليك قاض واحد وغدا أو بعد ستنقضي مدة الحكم وستخرج، فما أسرع مرور الأيام
أما أنا فقد حكم المجتمع علي حكما أبديا لن يتغير ولن يتبدل ولن يخفف
حكم علي بالإدانة دون أن يستمع إلي وأنا الضحية
الذي جنى علي الآن حر طليق يفعل كما يحلو له ويتمتع بكل متعة ممكنة بل ويحاول إقناع الجميع أنه كان ضحية لي
حكم المجتمع علي دون أن تأخذه شفقة أو رحمة بضحية سكبت دمها ودموعها على أعتاب قاتلها وجلادها
اعذرني
لن أستطيع التقدم إليك خطوة واحدة
فخطوة واحدة فقط كفيلة بإثبات كل التهم السابقة علي والتي لا يحتاج المجتمع إلى دليل لإثباتها
خطوة واحدة فقط كفيلة بأن تطردني من كل مأوى أحتمي به
- ولكنني أحتاجك دعينا نكمل ما بقي من عمرنا معا
- وأنا أحتاجك أكثر منك فكلانا جريح وكلانا سجين وكلانا يجب أن يبقى في مكانه
فلا أنت تستطيع أن تتخلص من قيدك ومحبسك ولا أنا أستطيع أن أتقدم إليك خطوة ففيها فقد لما تبقى من حياتي
التقت أعينهما وتعانقت دمعتان نزلتا من عينيهما في لحظة واحدة وأطرقا رؤوسهما إلى الأرض بينما يد السجان تحركه وتدفعه باتجاه السيارة الأليمة ليقضي الحكم الذي ما سمع منه شيئا ولا انتبه
ولم يعد يريد أن يعرف أو يهتم كم بقي له في سجنه كما كان لا يهتم بما مضى له فيه.