اليوم نحن في منزلة بين المنزلتين. فقد كنا ننزل في كل مُستجد لا نفهمه منزلة الاستشهاد بالنص الشرعي في مواجهة كل من نزل المنزلة الثانية فجادلنا دون النص بالعقل والحكمة والواقع والمصلحة. فقد كان النص الشرعي هو ملاذنا عند تحير الأفهام واختلاط الحجج وعجز العقول عن الإدراك، فالله أعلم بمصالح عباده، وهو علام الغيوب، فلا يخفى عليه ما كان ولا ما سيكون، فقد ختم سبحانه الأديان بدين صالح لكل زمان ومكان، لا يعطل صلاحيته الأبدية إلا أهواء الرجال وقصر الأفهام. ثم أصبحنا اليوم ونحن واقفون حيارى صامتون بين منزلة تقديم الشرع أو منزلة تقديم الرأي المعارض للنص (رغم أنه رأي مستند إلى غير الحقائق). هذا الصمت عن إظهار الحق هو ما قصدته أن بعض علمائنا اليوم بمنزلة بين المنزلتين.
عقود مضت، لجأ العلماء خلالها إلى النص الشرعي لنقض كل طرح يقدمه شرعي أو اقتصادي أو مفكر يعتمد جوهر طرحه على العقل أو الواقع أو على تحقيق المصلحة الراجحة في وجوب إعادة النظر في فتوى ربوية الأوراق النقدية. هذه الفتوى التي قامت على علة استخرجها الشيخ ابن منيع قد امتنعت اليوم (والشيخ ابن منيع دائماً ما يُذكر الناس بفضله هذا، كما أكد في قناة الرسالة). هذه الفتوى قد اشتهرت في غفلة من الفقه الذي صرفه تغليب جانب الاحتياط عن مراجعة استمرارية صحتها وصحة الاحتياط. فالعلة اليوم قد امتنعت كما تقرر في الأصول. وهذا الاحتياط قد بان اليوم خطأه، فها هو قد هدم النية في فقه المعاملات المصرفية، رغم أن النية هي أصل الدين. وهذا الاحتياط هو الذي ألجأ الأمة إلى إحياء فقه الحيل وحقق الظلم والغرر للمسلمين وأظهر للعالم الدين وكأنه متناقض، فالشارع يحرم على أمته ما يضطرون إلى الاحتيال عليه، تعالى سبحانه عما يقولون علواً كبيراً.
الدكتور إبراهيم الناصر أحد المفكرين والاقتصاديين الذين كتبوا يجادلون بالواقع الاقتصادي وبالمصلحة العامة في وجوب إعادة النظر في الفتوى التي أجرت الربا في الأوراق النقدية مستشهداً بالعقل والواقع والمصلحة، فكتب الشيخ ابن باز راداً عليه بالنص الشرعي (اعتماداً على تبنيه للعلة المستنبطة من الشيخ ابن منيع) محتجاً عليه بأن الله لا يحرم ما فيه مصلحة للمسلمين.
فخلاصة كلام الناصر ورد الشيخ ابن باز في هذه النقاط التي أتت في رد الشيخ رحمه الله حيث قال: إن الدكتور الناصر لم يثبت إلا الربا الأعظم المذكور في القرآن، وهو قولهم إما أن تربي وإما أن تقضي فقال: «فهذه المسألة عند إبراهيم المذكور هي المحرمة من مسائل الربا وما سواها فهو حلال». ثم قال: «أحاديث مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا مغمز فيها، وهي تدل دلالة صريحة قطعية على أن بيع المال الربوي بجنسه مع أي زيادة ولو قلت ربا صريح محرم، ولكن الكاتب إبراهيم المذكور -هداه الله وألهمه رشده- أعرض عنها كلها ولم يلتفت إليها، وإنما تكلم عن الربا المجمل الوارد في القرآن الكريم» وبعد أن انتهى الشيخ ابن باز من الرد الشرعي استشهد رحمه الله بحكمة اتباع النص بتاريخ المسلمين على حجج الدكتور الناصر العقلية المبنية على المصلحة العامة فقال: «فقد استقام اقتصاد المسلمين طيلة القرون الماضية، وهي أكثر من ثلاثة عشر قرنا، دون وجود بنوك ودون فوائد ربوية».
ثم نبه الشيخ ابن باز رحمه الله على أصول القياس وأنه ليس عبثاً فقال: «يجوز القياس عند أهل العلم القائلين به في المسائل الفرعية التي لا نص فيها إذا استوفى الشروط التي تلحق الفرع بالأصل كما هو معلوم في محله». فأقول أنا اليوم: فماذا لو كان الشيخ ابن باز حياً وهو قد رد بالنص على الناصر، مؤكداً أن بيع المال الربوي بجنسه مع أي زيادة هو ربا، وإلحاق الأوراق النقدية بالمال الربوي (الذهب والفضة) بالعلة التي استخرجها الشيخ ابن منيع قد امتنعت وبطلت اليوم. والشيخ ابن باز يدرك أن علة ظنية تستلزم نقض الحكم للأصل المنصوص عليه هي علة باطلة. واليوم وقد انتقضت علة الشيخ ابن منيع التي جعلت الثمنية تلحق الأوراق النقدية بالنقدين (والثمنية قد احتجبت اليوم فيهما بشهادة الشيخ ابن منيع نفسه) فهل كان الشيخ ابن باز سينزل عن المنزلة الأولى منزلة الاستشهاد بالنص ليستشهد بالمنزلة الثانية منزلة الاستشهاد بالرأي (ولو كان باطلا) لينقض النص. أم أنه سيتخذ منزلة بين المنزلتين فيلجأ إلى الصمت؟ الشيخ ابن باز لم يصمت من قبل عن بطلان فتوى وقوع الطلاق بالثلاث في مجلس واحد رغم أنها فتوى الفاروق وتبناها العلماء قاطبة من بعده لستة قرون. فتخريجا على موقفه هذا فحلي به بأن لن يصمت لو كان حيا عن علة استخرجها الشيخ ابن منيع ومن اتبعه لأربعين عاماً. فهو الذي قال في رده على الناصر: «وقد تقرر في الأصول أنه لا رأي لأحد ولا اجتهاد لأحد مع وجود النص».
المسكوت عنه اليوم أن صمت العلماء الربانيين اليوم عن إعادة بحث وتجديد فتوى ربوية الأوراق النقدية أنه قد اجتمع في بطلانها النص والنقل والعقل والواقع والمصلحة وظهر ضرر هذا القول على الدين والفقه وعلى دنيا الناس ومصالحهم، فهي تحتاج إلى مجدد، ولن تعدم أمتنا من مجدد، فإن كان الشيخ ابن باز قد مات فإن دين الله لا يموت.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem