وقفت مع إحدى بناتي الكريمات الحبيبات موقفاً عائلياً طافحاً بالعتاب الجميل، متألقاً بالصراحة المهذبة، والوضوح البديع.
بدأ الموقف بهجوم أبوي لا يخلو من قسوة الحب، وتنفيذ شيء من سلطة الأب، وما كنت سأقوم بذلك الهجوم أبداً لولا شعوري حين نفذته بإحساس الأب العطوف الحنون الذي يرى مصلحة ابنته فيما يهاجمها من أجله، فهو هجوم محمود في نظر الأبوة، ضروري في ميزان التربية، واجب في إطار أمانة التهذيب والتدريب والتأديب. ولو لم يكن الحب رائداً للموقف لما كان الهجوم السلمي الذي لم ترفع فيه عصا، ولم ينزع فيه عقال من موقعه على الرأس ليتحول إلى سوط جلادٍ كما يفعل بعض الآباء - هداهم الله -.
وهنا أنبه أبناءنا وبناتنا الكرام الفضلاء إلى شيء مهم قد يغيب عن أذهانهم حينما يرون شيئاً من قسوة آبائهم وأمهاتهم؛ ألا وهو الحب العظيم الذي يملأ قلوب أولئك الآباء والأمهات وهم يميلون - أحياناً - إلى عتاب أو تأنيب أو عقاب، وهو حب متغلغل في صدورهم راسخ في أعماقهم، قد يختفي لأسباب كثيرة فيظن الأولاد أنه ضعف أو أنه غير موجود، وقد يظهر في صور مختلفة، بعضها واضح جلي وبعضها مستور خفي، ولهذا يكون من الخطأ الكبير أن يسيء الأولاد الظنون بآبائهم وأمهاتهم، لأن سوء الظن يبدأ صغيراً، ثم يكبر حتى يوغر الصدور، ويؤثر في النفوس، وربما يدفع - بعد ذلك - إلى نماذج من القطيعة للرحم، تورد الإنسان المهالك في دنياه وآخرته.
توقف هجومي على ابنتي عند حد معين، حينما بدأ هجومها المؤدب، وعتابها المهذب، فباحت بما كان في صدرها، وزعمت أن هذا هو الشعور الموجود عند إخوتها وأخواتها، وأقول هنا: زعمت، لأنني لم أتثبت من هذا الأمر بسبب سفري بعد موقفي مع ابنتي بساعات، وحينما أعود - إن شاء الله - فلا بد من عقد جلسة عائلية فنحاور فيها جميعاً حول هذا الموضوع - واذكركم أيها الأحبة - بأنني كتب هذه المقالة وأنا على متن الطائرة متجهاً من الرياض إلى جدة، وضياء الشمس المتسلل من نافذة الطائرة يشاركني كتابة هذه الكلمات.
قالت لي ابنتي: اسمح لي يا أبي أن أقول لك وأنت الأب المربي المهتم بشؤوننا: إنك قد ابتعدت عنا نفسياً منذ فترة نراك فيها منشغلاً ببعض ما هو مهم من الأعمال والمواقف والأحداث، لا شك عندنا في أهميته، ولا اعتراض عندنا على اهتمامك به، بل نحن ندعمك ونشجعك، ونرجو لك الأجر العظيم فيه، كما نرجو أن نشاركك في هذا الأجر، ولكن شعورنا بأنه قد أبعدك عنا - نفسياً - مسافة غير قصيرة، جعلنا نشعر بالألم، ونحس بنقص في تلاحم أجوائنا العائلية، لم نعد نستطيع أن نكتمه عنك، ومع أنني كنت - في لحظتها - ما زلت في دائرة الانفعال بذلك الموضوع الذي هاجمتها من أجله، إلا أنني في أعماقي شعرت بصواب كلامها، لأن الإحساس الذي صورته لي موجود عندي منذ فترة، مع أنني كنت أقوم ببعض الأشياء التي ظننت أنها تسد ثغرة الانشغال، والتقصير. يا له من هجوم جميل أوصلني إلى هذه النتيجة الرائعة.
إنها رسالة إلى الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات تقول لهم: اقتربوا من بعضكم، تحاوروا، اجتمعوا على الوضوح والصراحة، دعوا المجاملات التي تحول بينكم وبين الدخول إلى أعماق قلوبكم.
إنني على يقين بأن تقارب أفراد الأسرة المبني على الحب والوضوح والصراحة وحسن الظن كفيل بعلاج معظم المشكلات والخلافات العائلية مهما تضخمت.
إشارة:
شكراً لي لأنني هاجمت ابنتي الحبيبة هجوماً سلمياً
وشكراً لابنتي لأنها صارحتني، وشكراً لكم لأنكم قرأتم مقالتي.