هل في العالم العربي ممن يعشق الحرية ويحلم بحزمة ضوء وميزان عدل.. من يستطيع اليوم أن يخفي خوفه عما يجري من خلط أوراق الربيع العربي بأوراق الخريف اليابسة في مخازن ذاكرة الهزائم أو بأعواد الشتاء العارية من تجارب النصر البعيد الأمد؟؟
من.. من تلك الجموع التي رابطت مع المتظاهرين بميدان التحرير من المحيط إلى الخليج عبر شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الشبابي, يستطيع أن ينكر القلق الجارف الذي يعترينا جميعا اليوم من محاولات سد فضاءات التحدي لاستبدالها بسقوف الانسحاب أو التشتت.
فكيف بأولئك الذين أضاؤوا مسيرات الغضب والاحتجاج والمرابطة بنور عيونهم وأطعموها من حشاشات أروحهم ولحم أبنائهم؟
بكل التثمين والدهشة لاندلاعات هذا الربيع النادرة التي رد فيها الشعب العربي لكل منا واحدا واحدا الاعتبار لنفسه أمام نفسه بأنه قادر على الوقوف في وجه الظلم ورفض المذلة كما ذاد فيها عن سمعته أمام العالم بأنه شعب يملك مقومات الكرامة والعزيمة, لا بد أن نسمح لأنفسنا بعزة السؤال ولا نقبل بأثم تسريح أو تكسير الأحلام وكأن الربيع لم يحدث بنا ولنا.
لا يجب أن يكون من محرجا أو مجالا لخشية الإتهام بالتراجع عن شرف الوقوف قلبا وقالبا مع مجد الربيع العربي أن نتصارح بالقلق من مآلات الحدث السياسي. بل إن الموقف العقلاني يقتضي أن نتداعى للتفكير في عدد غير قليل مما لم يعد يحتمل التأجيل من الأسئلة.
ومن تلك الأسئلة: بمن ولمن و ما الرؤية وما العمل لئلا يتحول «الربيع العربي» إلى جحيم جديد يعيد إنتاج الاستبداد الداخلي والتبعية الدولية ومطاردة طائر الحرية؟. كيف يتحول زخم المد الشعبي إلى عملية تراكم حضاري طويل الأجل يؤدي إلى تحولات نوعية في النظام والسلوك والمفاهيم والبنى وعلاقات المجتمع رأسيا وأفقيا؟
كيف يتغير ما بالأنفس من عضال الأمراض السياسية المعتقة في الدم, تلك التي أصبحت جزءا من التركيبة العقلية والوجدانية للمواطن داخل أنظمة الظلم والتعصب والقمع، رغم الولع بأحلام الحرية.
بعض تلك الأسئلة مما ذكرت أو ما لم أذكر من النوع الكامن في الذاكرة حيث يخرج من معطف تاريخنا الطويل في الإقامة الجبرية أو التواطؤية داخل جدلية الإستبداد والطاعة. وهو لهذا جدير بالتأمل لئلا نكتفي في الإجابة عليه بما تعودناه من خوف الخروج على هذه الجدلية. أما البعض الآخر من الأسئلة فهو ما يولد طازجا في هذه اللحظة التاريخية الساخنة فيأتي محملا بمفاجآت جدة تجربة «الربيع العربي» وبمحاذيرها بل ولوعاتها وويلاتها. وهو نوع جديد من الأسئلة نخطئ لو حاولنا إجابتها بالجاهز لدينا من تجارب «الانقلابات العسكرية» للنصف الثاني من القرن الماضي وإن سميت بـ»الثورات». وتنبع جدة التجربة وبالتالي جدة أسئلتها من أن هذه المواجهة التي انطلقت شرارتها من تونس ولا تزال تتحرك ضوءا أوحمما في عدة اتجاهات عربية إنما هي بحد ذاتها مواجهة جديدة تحاول نقض جدلية الاستبداد والطاعة العمياء بجدلية الحرية والإرادة بأشكال ثورية ليس هناك خبرات سابقة بها. لقد كان المجال السياسي و الاجتماعي تاريخيا بعيدا عن متناول التحركات الشعبية السلمية كما كانت تغيراته لا تجري إلا بيد ولصالح نخب ضيقة وهي تغيرات لا تتم بغير تكريس الاستعلاء على مختلف مكونات القوى الاجتماعية الأخرى وفي غيابها. أما اليوم وحضور الشعوب مكلل بطلائع الشباب نساء ورجالا من مختلف الطبقات الاجتماعية وخاصة شرائحها الرقيقة يملأ الشوارع والساحات والميادين في العواصم والأطراف للمطالبة بالحقوق والكرامة والحرية فإن الموقف قد أختلف نوعيا بما خلقه من حالة وطنية مركبة بل شديدة التعقيد لا يمكن تبسيطها أو دعوة أصحابها للانصراف ببعض الوعود الإصلاحية وتغيير الأزلام بعد أن أنجزوا ليس بدون تضحيات وبعضها جسيم جدا مرحلة إزالة عدد من رؤوس أنظمة عاتية؟!
على أن بعض الأسئلة تبقى عالقة في الحلق ما لم نتعلم ما يسمى بتنفس الموجة وهو تنفس يشبه مغامرة النسور في كسر مناقيرها وحرق ريشها القديم لتستطيع استعادة شباب أجنحتها من جديد.
فمن يستسلم للتداوي بالردة فيما يمكنه الشفاء من الأمراض السياسية المزمنة بشيء من الصبر والكثير من البصيرة وإرادة الحياة؟!
فلكل المشككين في شعلة الثورات العربية ووقودها الشبابي على الجبهات الملتهبة أو المهدأة أوالمتهيئة, لنتذكر أنه ليس أسوأ من بؤس ما كان إلا السقوط في اليأس مما بالمستطاع أن يكون أو الضعف أمام لصوص العرق والدم والصبر. فكسر شوكة الأمل والعودة لمربع هيبة الخيبات أخطر العاب الخفة والقتلة التي يراد بها للعالم العربي أن يدير ظهره للمستقبل كما كان الأمر من قبل ماقدم من تضحيات على مذبح الربيع العربي.
فهل من العقل أو الضمير أن نداوي رهبة المجهول وشدائد التحولات بعقدة الخوف من جديد.