كأننا فجأة صحونا من نوم عميق.. والصور لحظة بلحظة تصلنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر والفيس بك). الكل في حالة ذهول كيف يمكن لما يحدث أن يحدث فعلاً. الكرماء من أبناء البلد من المارة الذين هبّوا للمساعدة والأهالي المفجوعون والطالبات المرعوبات في حادثة حريق مدرسة براعم الوطن الأهلية بجدة السبت الماضي، الكل يتقافز حول النار والدخان والحطام...
ولا أحد بالطبع يعرف بالتحديد ما الذي عليه أن يفعله في تلك اللحظة. لم نكن معدين والمدرسة - ككل المدارس - لم تملك الإمكانات البشرية ولا الإدارية للتعامل مع حادث كهذا، وكل ما كنا نفعله في تلك اللحظات الأليمة لحظة الحريق، هو أن ندعو بأن يستر الله فيكون عدد القتلى محدوداً، وأن يكون خارج نطاقاتنا الذاتية المباشرة، فلا تموت لنا طفلة أو زوجة أو قريبة. ستر الله كان كبيراً إذا ما قورن بحجم المدرسة وأعداد الطالبات فيها والعاملات من معلمات وإداريات، لكننا أيضاً فقدنا أرواحاً طاهرة لن تعوّض لمعلمة وإدارية، كما أصيبت أكثر من 46 طالبة، إضافة إلى الجروح النفسية التي لن تندمل لمئات الطالبات وذويهم.
ما الذي حدث؟ ولماذا حدث أصلاً؟ ولمن يجب أن توجّه أصابع الاتهام؟ لماذا أصيب المتعاملون المباشرون في الحادث من مارة وأهالي بالذهول من حالة الفوضى التي عمّت الجميع بما فيهم المعلمات والإداريات، مما أربك جهود الإنقاذ؟ لماذا لم نسأل أنفسنا السؤال الصعب قبل أن نرسل أطفالنا لهذه المباني؟ وإذا كنا سنسأل فجميع المنشآت التعليمية ستسقط في امتحان القبول، فهل نبقي أطفالنا في البيوت بسبب رداءة مستوى الخدمات المدرسية المقدمة في كل من التعليم الأهلي والحكومي واحتمال تعرُّضهم للخطر كما حدث مع هذه المدرسة المنكوبة؟
لنحلل جزءاً من التقرير الذي نشر في الوطن اون لاين بقلم سامية العيسى لنفهم قليلاً ما حدث:
القفز من الأدوار العليا، كان الحل الذي اختارته معلمات وطالبات في مدرسة البنات المحترقة في جدة، وهن يواجهن أبواب طوارئ موصدة، وسط نداءات وتوسُّلات أولياء أمور ومتجمهرين يطالبونهن بالعدول عن قرار الهرب من النار إلى الموت سقوطاً.
ولم تكن معظم الإصابات بسبب الاحتراق والاختناق، بل كانت كسوراً ورضوضاً من جرّاء الهرب قفزاً، كما أشار الأطباء وأشارت معلمات التقتهن الوطن إلى أنّ خطة الإخلاء المعدّة من قبل الإدارة كانت مجرّد حبر على ورق مشيرات إلى أنّ الطالبات يجهلن آليات الإخلاء وسط إغلاق أبواب الطوارئ.
وفي تصريح لرئيس مجموعة أعينكم للسلامة العقيد العنزي في جريدة الوطن الأربعاء 23 فبراير، ذكر فيه أنّ 80% من البيئات التعليمية تُعَد بيئات خطرة جداً، لأنها تفتقر لمخارج الطوارئ التي تتناسب مع العدد الفعلي للأطفال، وحتى لو وجدت فغياب الصيانة الدورية لها وعدم التدرب، إضافة إلى التعديلات التي تجريها الكثير من المنشآت التعليمية أهلية وحكومية على مبانيها بإضافة الحواجز والقضبان الحديدة التي تحوّل هذه المدارس إلى سجون تحتجز من بداخلها عند وقوع الحوادث، وأوضح أنّ هناك توجيهات من وزارة الداخلية لكافة المنشآت لتعيين موظفين وموظفات في مجال السلامة.
أين المدارس من كل هذا؟ والسؤال يعيد نفسه: من المسئول؟
إنها حزمة من الأسباب تضافرت لتخلق هذا الوضع المنكوب أوّلها الفلسفة المتهالكة التي تحكم علاقتنا بمفهوم التعليم: تعليمنا الحالي مبني وخاصة للبنات، على أنّ التعليم هو مجرّد توفير غرف متوسطة الحجم يمكن أن تضم أكثر من أربعين مقعداً متلاصقاً ومعلماً ينتقل بين فصوله لإتمام نصابة من الأربع وعشرين حصة من حيث إنهاء المنهج المقرر من الوزارة. ماذا نحتاج في تعليم كهذا؟ فصل بسيط وسبورة وطباشير وجدران باهتة ومكيف لا يعمل. الحمامات يمكن أن تكون قذرة ومسدودة ولا بأس، المياه غير نظيفة والخزان لم يغسل منذ سنين وهو ربما يئن من الشوائب. لابد من وجود ساحة صغيرة تكون في العادة هي القلب الذي تلتف حوله الفصول حتى تخرج فيه الطالبات في فسحتهن. النوافذ عالية ومغلفة بالحديد، باب الخروج لمدارس البنات ومهما صغر أو ضاق فلابد أن يرفد بساتر خشبي أو اسمنتي يضع حاجزاً أمام المخرج حتى لا تصل العيون المتلصصة بحيث لا يسمح هذا المنفذ بخروج أكثر من طالبتين معاً (تخيّل في حال مدرسة البراعم 900 طالبة)، وهذا المدخل في العادة مقفل بالضبة والمفتاح بل وقد تحضر للمدرسة والحارس قد ذهب للبقالة ليحضر شيئاً وعليك الانتظار حتى يحضر ليفتح القصر العتيد. لا وجود لحديقة أو معمل أو مسرح أو ساحات أو غرف حماية أو طوارئ أو خلافه. لا توجد أصلاً ميزانيات خاصة للمدارس للتأكد من خطط الطوارئ أو السلامة، وأتحدى أن أجد (إلاّ في ما ندر) نظام إرسال بالميكرفون والذي تعرفه كل المدارس الأمريكية مثلاً ونراه في مسلسلاتهم، بحيث يمكن للمدير أو الإدارة الرئيسية توجيه أي إعلان مباشرة لكل غرف المدرسة وفصولها وملاحقها، بحيث يعرف الجميع ماذا يحدث وماذا عليهم أن يفعلوا. لا بد من وجود مساحات خالية على يمين المبني ويساره لتجميع الطلاب فيه عند الطوارئ، وفي العادة يفصل طلاب الروضة والابتدائي عن باقي المراحل حماية لهم من التدافع لصغر حجمهم. هناك إدارة كاملة في كل مدرسة تسمّى إدارة السلامة والأمن (خاصة بعد أحداث القتل وحمل السلاح التي انتشرت للأسف في ثانويات الولايات المتحدة وكذلك قضايا الإرهاب)، بحيث تكون مسئولة عن تدريب شهري على خطط الإخلاء والطوارئ لكل المدرسة، وهناك قائمة (تشيك ليست) مع الإدارة الرئيسية، يتم مراجعتها بعد كل (دريل) مثل ما يسمونه أي بعد كل اختبار، للتأكد من أنّ كل شخص في المدرسة يعرف ماذا يفعل حال حدوث طارئ. أين كل طالب وكل معلم؟ هناصافرات الإنذار للحريق في كل غرفة إضافة إلى فتحات لرش المياه من السقف مباشرة في حال حدوث حريق (علينا السلامة .. سنموت حرقاً حيث أعمل لأنه حتى لو توفرت تلك الفتحات في السقف فلا توجد مياه أصلاً: اليوم لم نجد مياه لنغسل لصلاة الظهر!! المياه مقطوعة أو غير متوفرة)!
في ظني أنّ المشكلة ليست قصراً على المدارس الأهلية. هي موجودة في كل المدارس أهلية وحكومية وهي أكثر بشاعة كل ما ابتعدت عن المدن الرئيسية وذهبت للأرياف والمناطق النائية، حيث مستوى الخدمات والمباني في حال يرثى لها.
ما العمل؟؟؟
أن نراجع فكرتنا عن مفهوم التعليم وحقنا كمواطنين فيه. نحن دولة غنية وحري بنا أن تتوفر لنا مدارس بمواصفات إنسانية. إنسانية فقط وليست مثالية. النماذج موجودة في العالم ولا نحتاج أن نخترع شيئاً. فقط نحتاج إلى ضبط الفساد في الأجهزة وفي استخدام المال العام وتوفير الحماية للمواطن أينما كان: في مدرسة، سوق، مجمع، مسجد، توفير مياه نظيفة - حمامات - تكييف - ساحات.. نحتاج إلى الإيمان بقيمة الطالب الإنسانية ثم إلى نزع أستار الخصوصية عن المنشآت التعليمية النسائية والتعامل معها على أنها منشآت عامة أهم ما فيها هي سلامة من بداخلها وليس فقط سترهم ؟ هل نطلب الكثير؟؟
أرى أننا هذا الأسبوع نفزع من رائحة شواء في مدرسة فنستدعي الدفاع المدني لكن ماذا سيحدث بعد أن تخف تلك الرائحة ويصمت أنين المصابين وتتواري ذكري من قضوا لتبقي مصيبة أهلهم فقط؟ هل سنرسل أبناءنا مجدداً لهذه المدارس؟
لتهب كل أم إلى المدرسة حيث يدرس ابنها أو ابنتها ولتسأل عن قواعد السلامة ومخارج الطوارئ ومفاتيحها وتجربها وتطالب أن تكون حاضرة إذا ادعوا أنهم يقومون بتجارب الأخلاء لتري بعينها كيف ينزل الصغار من الدرج والتدافع الذي يمكن أن يقتل أكثر من الحريق نفسه. ربما علينا أخذ الأمر في يدنا هذه المرة.