كانت ريم تتسامر مع والدها وشقيقها في مساء يوم اعتيادي، تتجاذب مع والدها أطراف الحديث عن أمور مختلفة.. وطال الحديث إلى آخر ساعات تلك الليلة، ورغم أنّ والدها قد حاول معها أن تنام مبكراً ولكنها آثرت إلاّ أن تظل مع والدها وشقيقها في ليلة لا أحد يعرف أنها ستكون ليلتها الأخيرة...
...وسيكون رؤية والدها وشقيقها وأفراد عائلتها هي النظرات الأخيرة لريم في منزلها الصغير.. كانت لدى ريم حلم أن تعيش في منزل أكبر، وأن يكون لها غرفتها الخاصة التي تستطيع أن تدير فيها أمورها وحياتها كفتاة في سن الخامسة والعشرين..
كان لدى ريم حلم أن تتخرج من الكلية وتحصل على عمل، حتى تستطيع أن تعيل أسرتها بمن فيهم أشقاؤها الخمسة، وخاصة شقيقها من ذوي الاحتياجات الخاصة، ووالدها الذي أعيته الأمراض من الحصول على عمل يعيل به أسرته.. وقد تعرّضت هذه الأسرة لهزّة عنيفة قبل أشهر وتحديداً في رمضان الماضي عندما توفى الله والدتها، وفقدت تلك العائلة أحد أعمدتها وسندهم النفسي وبلسم جراحهم وهمومهم.. وقد بقيت ريم وحيدة تصارع ضغوطات الحياة ومتطلّبات هذه الأسرة المتزايدة، بسبب غلاء المعيشة مع ثبات مصادر الدخل لهذه الأسرة. ويظل الراتب الذي تتقاضاه ريم من مدرستها الأهلية هو الأساس الذي تقوم عليه هذه الأسرة.
كانت الساعة هي الثالثة من فجر يوم السبت، وعندها سمحت ريم لنفسها أن تذهب إلى فراشها لتستلقي لفترة قصيرة قبل أن تستيقظ مجدداً لتواصل مشوارها اليومي إلى مدرستها ومصدر معيشتها وعائلتها.. استدانت ريم من والدها وشقيقها الذي كان معها لتخلد إلى النوم، لتستيقظ بعد حوالي الساعتين، وفعلاً هذا ما قامت به ريم، حيث غادرت في يوم اعتيادي إلى مدرستها التي كان مصدر أمل لها، ولم تعرف أنّ الله أراد لها أن تكون هذه المدرسة هي المكان الأخير الذي ستعطي روحها إلى بارئها عز وجل.. وكعادتها تسلّم وتبتسم في وجوه الأطفال قبل الكبار لما عُرف عنها من شخصية يكتمل فيها الأدب والأخلاق. وتمر الساعات ساعة بعد ساعة، وحصة بعد حصة، وهي تحتضن أطفال هذه المدرسة، في فصول رياض الأطفال.. وعندما كانت تنظر في عيون الأطفال كانت ترى فيهم الأمل والحب والبراءة..
وعندما سمعت ريم جرس الإنذار، وعلمت عن الحريق، وهي في الطابق الثاني للمدرسة، وبدأ الدخان يصول ويجول في كل أرجاء المدرسة، ودب الخوف في قلوب هؤلاء الأطفال الصغار الذين لم يصلوا إلى سن السادسة.. وهنا جاءت لحظة الحسم.. وجاءت روح الفداء.. وومضات البطولة التي أرادها الله لريم.. لقد ألهمها الله أن تكون هي المنقذ لجميع هؤلاء الأطفال، وما كان عليها إلاّ أن تنظر من نافذة الفصل لترى بعض المواطنين والمقيمين يقفون تحت بناء المدرسة وتحت نوافذ الفصول..
وبدأت تلقي بالأطفال إلى هؤلاء الرجال الأبطال ليستقبلوا الأطفال طفلاً طفلاً وهي تحاول أن تفتديهم بروحها وحياتها.. فنظرات الأطفال وهم يتباكون ويصرخون ويختنقون أمامها ولا يعلمون ماذا يفعلون هي بمثابة الهاجس الذي أفزعها ورأت أنها يجب أن تفكر أولاً في هؤلاء الأطفال ثم تأتي هي لاحقاً وهي لا تعرف كيف سيكون مصيرها بعدهم.. وكلما قذفت ريم بطفل تنظر في هلع حتى تطمئن أنّ الأيادي الخيّرة قد استلقته وحملته سالماً آمنا.. إنها لا شك لحظات عصيبة.. ومع مضي الوقت يزداد الدخان في خنق هذه الأرواح، وتظلم الدنيا في عيونها وعيون هؤلاء الأطفال..
وبقي الطفل الأخير تقذف به ريم، وتنظر إلى تلك الأيادي التي تستقبله في حنان ورأفة وترقب.. تحمد الله على أن ألهمها إنقاذ جميع هؤلاء الأطفال.. ثم بدأت ريم تفكر بنفسها بعد أن منّ الله عليها بهذه البطولة الاستثنائية التي يعجز عنها الكثير، وتندر أن تجدها في الصغير والكبير، ولكن ريم أرادها الله أن تكون بطلة في مثل هذا اليوم وفي مثل هده الساعة وفي مثل هذه اللحظة.. وأخيراً فكرت ريم أن تساعد نفسها بعد أن ساعدت كل من يحتاجها، فما كان منها إلاّ أن تقذف بنفسها من تلك النافذة.. وسقطت ريم على الأرض ولم تجد الأيادي التي تستقبلها، فهوت على الطريق مخضبة بدمائها.. وهناك لفظت ريم آخر أنفاسها..
نعم لقد أراد الله أن تكون ريم النهاري المعلمة بمدارس براعم الوطن الأهلية بجدة هي بطلة وطنية كتبت لنا وللعالم بأجمعه درساً جديداً في التضحية والفداء.. لم تكن ريم تعلم أنها في هذا اليوم سيكتب الله لها شهادة في سبيل إنقاذ أطفال أبرياء لا حول لهم ولا قوة.. ولم تعلم ريم أنها جاءت في صباح هذا اليوم إلى المدرسة دون أن تعلم أنها لن تعود إلى منزلها الصغير.. ولم تعلم ريم أنّ غرفتها الصغيرة لن تعود إليها.. كما لم تعلم أنّ مساءها الأخير مع والدها وأشقائها الذي قضته يوم الجمعة كان هو المساء الأخير الذي شاهدتها فيها أسرتها.. ولم تعلم ريم أنها من بين أفراد أسرتها هي أول من سيلحق بوالدتها التي وافتها المنية قبل حوالي الثلاثة أشهر..
غابت ريم عن عيون العالم، ولكنها ستظل في قلوبنا جميعاً رمزاً وطنياً، ودرساً إنسانياً، فقد آثرت غيرها على نفسها، وكتب الله لها الخير في حياتها وفي مماتها.. فكم من يد رفعت إلى الله داعية لها بالقبول والرحمة والجنة، وكم عين دمعت عندما سمعت عن ريم وتضحياتها..
نعم غابت ريم عنا.. فهذا اليوم السبت لن تكون ريم بهذه المدرسة، وسيفتقدها أطفالها، وستفتقدها زميلاتها، وسيفتقدها أهلها من والدها إلى إخوتها إلى أقاربها... بل كلنا سنفتقد ريم..
وإلى جنة الخلد أيتها الإنسانة التي أراد الله أن يتوفاها قبل أن تحقق حلمها في هذه الحياة.. غرفة مستقلة لها تحافظ على خصوصيتها في منزلها الصغير..
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}..
(*) رئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال،
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa