تقول أحلام مستغانمي: (يملؤني إحساس غامض بالخوف على أجيال لن تعرف متعة الكتابة بهذه اللغة، بل وقد لا تعرف متعة الكتابة على الإطلاق)
لحد ما أجد هذه العبارة قريبة مني ؛ فاللغة العربية غنية عن التعريف، يكفي أنها لغة القرآن ولغة سادة القوم الذين اصطفى الله منهم خاتم أنبيائه ورُسله وأنا هنا لا أقف إطراءً للغة ليست بحاجة لإطرائي، إنما
لمجرد إلقاء التحية رغم أني بكل الأحوال مجرد عابرة سبيل في تاريخ هذه اللغة العريقة النامية وتحيتي ليست ذات بال لكن ما من شيء يمنعني من إلقائها وهي التي تفضلت عليّ وجعلتني أحد أبنائها، إن أقل ما يُمكنني فعله إزاءها احترامها والتمثّل لمبادئها وقواعدها...
وبهذا الصدد، لا أزعم خبرتي في الإلمام بأطرافها وحواشيها، وهو الشيء الذي يصعب أو ربما يستحيل -إن أردنا الدقة- على عربيّ في هذا الزمن والذي تواطأت فيه المُحرضات اللُّغوية من كل جانب أن يتفنّن فيها؛ أينما ألقي وجهي ثَـمَّ نقصان وتهاون، استخفاف وتجاهل على الصعيد العنكبوتي والصعيد الإعلامي والصعيد الاجتماعي والصعيد المدرسي و-الشارعي- إن أردتم!
و من المؤلم جدا رؤية هذا ؛ لاسيما وأني عربية في بلد عربي مسلم يتحّتم أن تكون العلاقة المُتبادلة بينه وبين لغته الأصليّة والأصيلة أقوى وأعمق مما هي عليه.
***
مما لا شك فيه أن معظمنا يُدرك بأن اللغات بمثابة اللسان للمجتمع الناطق بها وأنها الانعكاس الشامل للشعب ومفاهيمه وتوجهاته وتطلعاته،لكن ما جدوى هذه المعرفة إن لم تعصمنا من اقتراف الآثام بحقها ؟ وحق أجيالها الذين هم أمانة بأعناقنا ؟
ليت أن الأمر يتوقف على أننا لا نلتزم بها بوجهها السليم في شتى شؤون حياتنا كبرت أم صغرت أو أنه يقتصر على أخطاء عفوية نرتكبها سهوًا لكان الأذى أخف وطئًا، المشكلة -برأيي- تقصيرنا مع علمنا (نحن ندرك أليس كذلك؟) نحنُ كبرنا أم صغرنا نستوعب وظيفة اللغة البيئية والعالمية ومردودها النفسي والاجتماعي وأنها في أبسط تعاريفها (هوية وانتماء) لكننا مع ذلك نتمادى في وخزها وعدم توظيفها أمكنتها الملائمة، نتهاون في احترام فروعها وفي مدى التزامنا بالمسؤولية اتجاهها، نُماطل في مسألة الإصلاح الشيء الذي يُزعج الغيورين، الأخطاء تسري بأوصال البلد في لوحاته وأسماء شوارعه في صُحفه ومجلاته في منتدياته وألسنة إعلامه وغير ذلك، إلى أن شارف اليأس على التمكّن من أرواح المتّتبعين والذامّين مع الأسف.
***
إن من أكثر ما يمزّق قلبي حين تجوّلي بالشبكة العنكبوتية رؤية -الأربش- وهي تتسيّد كثير من المدونات والمنتديات والمواقع، بالذات المواقع الاجتماعية وبهذه المناسبة سألقي الضوء علىface book وو Google +و Twitter بشكل خاص ؛ بحُكم أنهما أداة تقنيّة اجتماعية عصريّة يجتذبان معظم الفئات على تفاوتها العمري والفكري، الدينيّ والجنسيّ والمهنيّ، ليس من الممتع أبداً ملاحظة التعدّي على حُرمة اللغة وهو يتفشّى بقناع مزيف يُغري أصحاب الأفق الضيّق الذين لا يعون الأضرار الناجمة من أدنى تصرف انتهاكي، إن من ينقاد إلى هذا القناع باعثه تصوّر رجعي وشغف أهوج نحو مظهر مخادع.
إن هذه «الأربش» اللغة المضطربة ! -كما أسميتها- تُجمع أغلب المصادر على أن مَنْشَأها يعود إلى فريق من البشر يبررون صناعتها بأسباب واهية، على سبيل المثال: اختصاراً للوقت وتيسيراً لعملية الكتابة !
في البداية اُستنكرت هذه اللغة ولم تلق رواجًا إلا في بعض مَهَام محدودة ولدى فئة معينة، أما الآن فهي تتواجد على الشبكة العنكبوتية ورسائل الهاتف النقّال والرسائل الفورية المتعلقة بالنقّالات الذكية يتجاوب معها -كما أسلفت-جيل اندفع دون معرفة لحقيقتها ودون تثبّت من جوهرها ومنبعها..
***
أنا (وأعوذ بالله من كلمة أنا) لا أجد حرجًا في ازدراء كل من يتعاطى هذه اللغة مهما بلغت المرتبة الوجدانية لهذا الشخص في قلبي ؛ إذ أنه ليس من السائغ أن نخلط بين لغات «شتان بينها» مستقلّة شكلاً ومضمونًا دون اعتبار لعواقب هذا المزيج بعيدة أو قريبة الوقوع، القواعد والمفاعيل والأساليب لا تتعادل فضلاً عن أن كلاً منها تختص بمُفردات وأصوات ومُثل وضوابط وحدود، والموقف الذي اتخذته نحوهما وتضامنت من خلاله مع العديد من المُخلصين لُغويًا موقف يجب أن يُتخذ بصورة جماعية ؛ يلزمنا احترام كل من العربية والإنجليزية احترامًا يُوجب علينا وضع كل منهما في مكانهما المناسب احترامًا يُحرّم علينا إرغامهما على التزاوج.
و لو كان أولئك الذين يتفننون في كتابة -الأربش- المغلوطة ويدنّسون صفحاتهم بها ويُذنبون بحق هويتهم وانتمائهم باسم الحداثة والابتكار يعلمون بمقولة ابن تيمية-رحمه الله-:(إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب ؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا باللغة العربية، ومالا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب) ما كانت نظرتهم لأنفسهم يا تُرى ؟ وهم الذين -بغضّ النظر عن سوء مُعاملتهم لها وعدم تطبيقها-يدمجونها بغيرها من اللغات الكتابية والحسابية ؟!
***
حينما نتشرّب حبّ اللغة حتى الأعماق ونعي وعياً مُطلقاً أن لغتنا تعنينا ونحن فقط من يمثّلها وأن غيرنا لا يمتهننا إلا حينما نمتهنها نحن وأن هذه اللغة بالذات لغة أرقّت الشعراء والأدباء في وصفها وأنها لا تزال حتى الآن محل دراسات واكتشافات جوهرية لأنكرنا ترويج هذه الكتابات كشيء مُسلّم ولعملنا على إصلاح الأخطاء الشائعة كشيء بدهيّ، ولما أخللنا بأمنها بشكل عام وهي التي أمّنت تراثنا ولما أعدنا تشكيل أحرفها استعانة بأحرف وأرقام هي بغنى تام عنها.
بالنهاية لا أطالب بالمستحيل نشر اللغة العربية مثلاً على الصعيد العالمي ! ما أسعى إليه هو صون لغتنا بأنفسنا أو صون أنفسنا بلغتنا (لا تفرق كثيراً!) وتأمين كل حقوقها (وواجب الالتزام بقواعدها أحد أهم حقوقها) ونحنُ حينما نحترم مَلَكاتها القرائية والكتابية والتعبيرية نرد جميلها علينا لا نُحسن عليها ومن يضبط نفسه اتجاهها فهو يجنّب ضميره الزلاّت.
و... مع كل المُضايقات يُطمئننا تعالى بقوله:(إنا نحنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
إلى لقاء قادم -بإذن الله-..