في هذه الأيام نسدل الستار على نهاية عام مضى بمنجزاته إيجابياته وسلبياته، أفراحه وأتراحه ونستقبل عاماً جديداً متوجاً بالأماني والآمال بأن يكون حافلاً بالعطاء وبالأمن والاستقرار ونضارة الحياة السعيدة وبهجتها، ولكن مع ذلك يبقى في صفحات العام الذي مضى ونودعه الآن بعض الندوب والبثور التي عكرت صفاء بعض أيامه ونعني بها لحظات الحزن ولوعة الفراق؛ حيث رحل عنا وفقدنا خلاله بعض الأحبة الأخيار من أقارب وأصدقاء وجيران وأناس فضلاء كان لهم في حياتهم وهج شهرة وإشراقات عطاء وتواصل في مجالات إنسانية واجتماعية.
هؤلاء جميعاً يجب أن نذكرهم وأن يغيبوا عن الذاكرة ويبقى بعد ذلك الدعاء لهم من المولى الكريم بأن يغدق عليهم من شآبيب رضوانه ونفحات رحمته وفائض كرمه ويسكنهم فسيح جناته.. هؤلاء الأحبة الذين نتذكرهم هذه الأيام كانوا يعيشون معنا بأفراحهم ومشاعرهم وآمالهم وطموحاتهم وشاءت إرادة الله أن يغيبهم الموت في آجالهم المكتوبة وساعاتهم المحددة فانتقلوا من الدار الفانية إلى الدار الباقية بجوار رب كريم رحيم {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.
وكان لفراقهم رنة حزن وأسى لدى محبيهم وما أكثرهم لما عرف عنهم واشتهروا به من سيرة حسنة وأعمال جليلة وتفان في خدمة وطنهم ومجتمعهم مما ترك أطيب الأثر من بعدهم. ولأن المتبع المأثور وسنة الوفاء والعرفان أن نذكر محاسن موتانا ليكونوا للأجيال الحاضرة والقادمة قدوة حسنة ومثالاً يحتذى، لذا لا يسعني وبجهد المقل العاجز أن أعطي لمحات موجزة عن كوكبة لامعة من الرجال الفضلاء الذين غابوا عن نواظرنا بأجسامهم وبقيت صورهم وذكراهم متجذرة في قلوبنا، جمعنا الله وإياهم في دار كرامته ومستقر رحمته.
لقد رحل الكثير من المحبين خلال أشهر العام الذي نودعه وكلهم أعزاء وغالين وكلهم يلزمنا الدعاء لهم والترحم عليهم ومن هؤلاء المحبين النبلاء الذين ودعونا وسبقونا نأتي على ذكر أسماء بعض من نعرفه حق المعرفة راجين من المولى عز وجل أن يتغمد الجميع بواسع رحمته إنه جواد كريم:
1- محمد الحسين الفريحي
فقيدنا الغالي أحد أبناء الرس الأوفياء والأخيار قضى عمره الذي كاد يلامس المائة عام في خدمة دينه ومسقط رأسه وبذل من أجلها الغالي والنفيس ويصدق عليه ما جاء في الأثر الشريف -خيركم من طال عمره وحسن عمله.. ومع أننا لا نزكي على الله أحدا، بل لنا عبرة بما جاء في القول المأثور -الناس شهود الله في أرضه-.
فقيدنا -رحمه الله- ودع الدنيا في نهاية العشر الأواخر من شهر رمضان المنصرم وعاش حياة حافلة بالعطاء وتلمس حاجات المعوزين من الضعفاء والمساكين بنفس كريمة وأريحية رضية وهو أحد أعيان ووجهاء الرس المعدودين الذين أفنوا حياتهم في خدمة الرس ورفعة شأنها والتواصل مع ولاة الأمر في كل ما يحقق لهذه المحافظة المزيد من التطور والنماء، وهو من جيل العصاميين الأوفياء، كانت تربطه بوالدي صلة محبة وصداقة وعاشا متجاورين لعشرات السنين.
ومع أن فقيدنا -يرحمه الله- من رجال المال والأعمال فقد حرص طوال حياته أن يوجه أبناءه وأحفاده إلى طلب العلم والمعرفة فتخرج منهم الأطباء والمربون في مقدمتهم ابنه الأستاذ الدكتور والاستشاري الباطني المشهور حسين محمد الفريحي أمين عام هيئة التخصصات الصحية السعودية سابقاً ومدير جامعة اليمامة حالياً.. ومهما أفضنا واستطردنا في الحديث عن سيرة الفقيد الحافلة بالعطاء فلن نستطيع في هذا الحيز المحدود الإحاطة بكل ما نعرفه عنه، ولكن لا نملك إلا الدعاء له بأن يتغمده الله بواسع رحمته ويلهم أبناءه وبناته وكافة محبيه الصبر والسلوان.
2- صالح المحمد الصالح الرشيد
فقيد غال عاش عمره عصامياً مكافحاً أفنى سنين حياته في خدمة دينه ووطنه وأسرته، وكان مثالاً يحتذى في الشهامة والكرم، صاحب نخوة وفزعة يأسر القلوب بحديثه وإنسانيته، من رواة الأحداث وسير الرجال المشهورين وله إلمام تام بمعرفة أصول القبائل وفروعها، تقلب في عدة وظائف حكومية كان آخرها مديراً للبرق والبريد والهاتف بمحافظة بيشة حتى بلوغه سن التقاعد، وقد عانى في السنتين الأخيرتين من أعراض مرضية زادت مضاعفاتها في الشهرين الأخيرين، وتوفي رحمه الله في مسقط رأسه -مدينة الرس- التي عاش فيها بقية حياته، كان مثالاً وقدوة لأبنائه في حب العلم والعمل وأنجب أبناء شقوا طريقهم في مدارج العلم وخدموا وطنهم بأمانة وإخلاص؛ أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أكبر أبنائه العميد عبدالرحمن الصالح الرشيد مدير عام معهد الجوازات بالرياض. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجعل من ذريته خير خلف لخير سلف والله المستعان.
3- صالح العلي العنيزان
هذا الفقيد الغالي أحد أبناء الرس الأوفياء تدفعك إلى احترامه وتقديره خصاله الحميدة ومواقفه المشرفة، عاش رحمه الله مؤمناً تقياً وفياً في تعامله، من أسرة كريمة، كان والده الفاضل صديقاً حميماً لوالدي رحمهما الله. وشقيقه الشيخ محمد العنيزان زميلاً في مهنة التدريس في مقتبل حياتي الوظيفية بمدرسة الحوطة بالرس، وكان نعم الزميل الوفي والشخص الوقور المثالي والمربي المتمكن، تربطنا بالجميع صلة الجوار وكانت صلة عميقة الجذور، عامرة بالوفاء والتكاتف.
ومنذ عرفت الفقيد صالح العنيزان لم أذكر في حياتي أن جاءت سيرته في أي مناسبة إلا والجميع يذكره بالخير، ويثني عليه ثناء عاطراً لما عرف عنه من دماثة الخلق ونبل التواضع وصادق الوفاء سمحاً لطيفاً، عاش معظم حياته الوظيفية بمستشفى الرس العام من خيرة الموظفين الإداريين المخلصين. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
4- ناصر المحمد الناصر الرشيد
سأظل ما حييت أذكر بالوفاء والعرفان مواقف هذا الرجل النبيل فله مواقف مشرفة تدعوني دائماً بالدعاء له في حياته وبعد مماته، لقد أفضى إلى ما قدم راجين من المولى الكريم أن يجزيه عنا أفضل الجزاء وأحسنه ومن مواقفه الإنسانية على سبيل المثال أنه عندما توفي شقيقي عبدالعزيز -أبو ممدوح- رحمه الله في حادث انقلاب سيارته في طريق جدة - المدينة القديم، وكان قادماً للقصيم قبل أكثر من ثلاثين عاماً حيث كان يعمل ضابطاً ومديراً للسير بمرور جدة. هذا الحادث المروع صدمة للجميع وكان ابن العم ناصر يعمل وقتها مشرفاً فنياً بإدارة تعليم البنات بالمدينة وعندما سمع بخبر الحادث هب مسرعاً بنخوته وشهامته في متابعة الأمر، حتى وصل جثمانه إلى مستشفى المدينة المنورة وحتى حضورنا من صباح الغد بصحبة والدي والعم منيع وأفراد الأسرة، صالح السليمان الرشيد ورشيد العبدالعزيز وأخي عبدالرحمن، ولقد خفف من وقع المصاب ولوعته ما وجدناه من ابن العم -أبو محمد- من عناية واهتمام حتى الصلاة عليه بالمسجد النبوي ودفنه بالبقيع، هذا الموقف من المواقف المتعددة التي لا تنسى ولا يستغرب منه وهو البار بوالديه طيلة حياته؛ فقد كان يتردد عليهما أسبوعياً وهما مقيمان بالرس على مسافة ألف كيلو متر من المدينة ذهاباً وإياباً وقد تفرغ لهما بعد تقاعده -رحمه الله وألهم الجميع بفقده الصبر والاحتساب.
5- عبدالله العلي عبدالعزيز الغفيلي
بعد معاناة طويلة مع المرض ودع هذا الرجل الفاضل والمواطن المحبوب دنيانا إلى دار البقاء والخلود وبرحيله فقدت الرس رجلاً كريماً شهماً صاحب نخوة ومروءة، كان بما وهبه الله من بشاشة ولطف يحرص على استقبال ضيوف الرس وإطلاعهم على معالمها، أما عن الكرم فحدث ولا حرج وكنت شاهداً على ذلك ومن النادر أن يرى أحداً من أبناء الرس ممن يقيمون خارجها وتتاح لهم الفرصة بالمناسبات والأعياد لزيارة مسقط رأسهم دون أن يلحق به أو ينتظره عند خروجه من باب المسجد للسلام عليه والإلحاح عليه بموعد لزيارة منزله للقيام بواجب الضيافة وتبادل الأحاديث والذكريات لأن طبيعة الكرم والوفاء من العادات الملازمة له، وقد فقده الرس ورحل بهدوء ومثل هذا الرجل يجب أن لا ينسى ولا يغيب عن الذاكرة -رحمه الله وأكرم نزله مع عباده الصالحين.
وفي ختام هذا الحديث النابع من القلب في حق هؤلاء الرجال الأفذاذ لا يسعني إلا الاعتراف بالتقصير فما هي إلا مشاعر صادقة مكلومة تؤججها لوعة الفراق بفقدهم، وكلماتي المتواضعة ليست لحصر مآثرهم وأعمالهم أو عن مسيرة حياتهم المليئة بالإشراق والرجولة، ولكنها كلمات وفاء وعرفان لهؤلاء الرجال النبلاء الذين ودعونا والوطن العزيز أحوج ما يكون لأمثالهم.
بقي في النهاية أن ندعو لهم بالرحمة والمغفرة. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.