مر بي قبل سنوات عدة عارض صحي سافرت على أثره للعلاج خارج المملكة.. في ألمانيا على سبيل المثال طلب مني الاستشاري المختص بالأعصاب الذي باشر عملية الفحص السريري الأولي.. طلب مني أن أذكر له تفاصيل الحادث الذي وقع لي منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية، وكان يسجل كل ما يقوله المترجم وبشكل دقيق، بعدها سألني.. هل خضعت لرعاية نفسية بعد هذا الحادث على يد مختصين؟ طبعا كان الجواب: لا.. ضحك وهو يهز رأسه متعجباً ثم أردف قائلاً: مثل هذه الحوادث لا بد أن يسبق ويلازم إجراء العمليات الجراحية والعلاج السريري علاج نفسي متخصص، لأنها غالباً تؤثر على شخصية الإنسان وقد تهز أو تشل تفكيره وتجعل المشاعر السلبية تلازمه!!.
زميل آخر كان موفداً من قبل وزارة التربية والتعليم للتدريس في دولة أوروبية.. يقول لي شخصياً إنه في آخر أيامه في تلك الدولة، تعرض لعملية سطو وتهديد بالسلاح من قبل مجهولين، هاجموه وهو خارج من شقته وأدخلوه - أعزكم الله - دورة المياه وأخذوا كل ما يمكن أخذه ثم ولوا هاربين.. ويضيف الزميل قوله.. منذ هذه الحادثة والخوف يعتريني عندما أكون وحدي، ولا أنام إلا وباب الغرفة مفتوح والنور مضيء، هذا مع أنه رجل وأعرف فيه الشجاعة والإقدام وتحمل المتاعب وتقبل الصدمات، فكيف بالولد الصغير والشاب المراهق والمرأة وكبير السن وغير هؤلاء من الضعفاء والعجزة والمعوزين.
لقد تناقل الوسط الأكاديمي في جامعة حائل الحالة النفسية لزميلات وصديقات الطالبات اللاتي رحلن من عالم الأحياء إلى حياة البرزخ وسكن القبور الأحد الماضي، البعض منهن مثلاً رفضن مواصلة دراستهن والذهاب والإياب اليومي كما كان حالهن فيما مضى من أيام، خوفاً من أن يحدث لهن مثلما حدث لزميلاتهن اللاتي يعرفنهن واحدة واحدة، والبعض الآخر ما زلن يتناولن المسكنات والمهدئات من هول الصدمة، وهناك من صديقاتهن من يتراقص الموت لها في كل زاوية كانت تجمعها بإحدى الفتيات اللاتي رحلن عن دنيا الناس وهي في قمة قوتها وعنفوان شبابها، أما الناجية الوحيدة من هذا الحادث الأليم فالحال أشد وأنكى والله يكون في عونها.. هذا المشهد المؤلم والموجع الذي لا يمكن أن نجمع شتاته وننسج جميع خيوطه في مقال واحد يفرض علينا طرح موضوع الرعاية النفسية اللاحقة لمن ألم به مصاب أو وقع عليه حادث أثر على مشاعره وهز شخصيته فضلاً عن الرعاية الطبية العاجلة وكذا الاجتماعية، ولعل من هذا الباب العزاء لأهل الميت والوقوف معهم وذكر محاسن موتاهم، ولعل من هذا الباب صناعة الطعام لأهل الميت الذي أصله حديث عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرَ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أمر شَغَلَهُمْ».
إن وجود مراكز للرعاية النفسية في جميع مناطق المملكة تشرف عليها هيئة وطنية للرعاية اللاحقة وتتولى مهمة ومسؤولية تحقيق التوازن النفسي لكل من وقع تحت طائلة الأمراض والضغوط النفسية المتعددة جراء حوادث الدنيا المختلفة سواء موت حبيب أو فقد غال أو طلاق أو فشل في تجارة أو دراسة أو مشروع أو ما إلى ذلك، إن وجود هذه المراكز يعد في نظري أمراً أساسًا خاصة في ظل صعوبات مجريات الحياة اليوم التي جعلت إيقاع الحوادث والمصائب علينا أشد والعلائق الاجتماعية والتواصل المجتمعي أصعب وأشق، وقد يكتفي الكثير منا بالاتصال الهاتفي أو عبر رسائل الجوال.
نعم إنني على إيمان تام وقناعة قاطعة بأن القرآن الكريم علاج وشفاء لما في الصدور، لكن هذا لا يمنع أن يكون على يد المختصين في هذه المراكز التوظيف الأمثل للنص القرآني في العلاج للأمراض والصدمات النفسية التي تؤثر على القوى والقدرات العقلية والجسدية.. دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.