تكلمنا في أحد المواضيع السابقة عن الروسي ستانسلوف بتروف، وهو ضابط أنقذ العالم من حرب نووية عام 1983م عندما عصا أمراً من القيادة السوفيتية يأمره أن يضرب الولايات المتحدة بالسلاح النووي عندما ظنت القيادة أن أمريكا بادرتها بالصواريخ، واتضح لاحقاً أن سبب الفوضى هو خطأ في الرادار، ولولا أن ستانسلوف عصا هذا الأمر لاحترق نصف أمريكا ولردت أمريكا بضربات انتقامية ولأصاب معظم العالم شرر ونار من هذه المحرقة النووية.
لا تحب الجيوش إشاعة أخبار العصيان ولكنها تحدث، وأقرب هذه الحوادث هو ما حصل عام 1999م بين الناتو وروسيا، والناتو والذي يُعرف أيضاً باسم منظمة حلف شمال الأطلسي هو تحالف عسكري مكون من دول أوروبية إضافة إلى أمريكا وكندا. بعد أن انتهت حرب كوسوفا الأهلية في الحادي عشر من يونيو تلك السنة كان هناك قوة مشتركة من الناتو وروسيا لحفظ الأمن، وطلب الروس أن يكون لهم قطاع خاص مستقل عن الناتو يفرضون فيه سيطرتهم ولما رُفِض طلبهم هذا استشاطوا غضباً وقامت قوة روسية مكونة من 200 جندي باحتلال مطار العاصمة بريستينا. وصل الخبر للغرب وكان رئيس الناتو هو الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك، فأمر مجموعة مكونة من 500 جندي بريطاني وفرنسي باقتحام المطار والاستيلاء عليه من الروس بالقوة، وهذا ما أقلق الجنرال البريطاني المسؤول عن جنود بريطانيا هؤلاء، ورغم أن الفرقة كانت تحت إمرة الأمريكي كلارك وكانوا من ناحية قانونية ملزمين بتنفيذ ذلك الأمر إلا أن رئيس الفرقة رفض الالتحام مع الروس، وقال لرئيسه الجنرال كلارك: «إنني لا رغبة لدي أن أشعل الحرب العالمية الثالثة من أجلك!»، وأمر جنوده بتطويق المطار فقط، وفي النهاية حلوها جميعاً سلماً وبدون طلقة واحدة.
نحن نرى هذه القصص الآن وتبدو المسألة لنا بديهية، فنظن أنه من السهل أن يعصي العسكري أمراً إذا رأى أنه يتعارض مع المصلحة العامة، ولكن في العالم الواقعي فالمسألة أصعب بكثير مما تبدو الآن بعد الإدراك المتأخر، ففي هذه المواقف تكون الأجواء المشحونة والأعصاب متوترة والأصابع على الزُند، والأسلم دائماً تنفيذ الأمر حتى لو بدا خاطئاً لأن المرء يكون قد أدى ما عليه وإذا ما كان هناك لوم فسيقع على القائد الذي أعطى الأمر لا على الجندي الذي نفذه، ولكن الحقيقة أن عصيان هذه الأوامر شاق، ففي هذه الأجواء الساخنة يصعب التفكير في عواقب الأمور ويسهل مجرد التنفيذ الآن والتفكر لاحقاً، لا سيما وأن عدم تنفيذ الأمر لن يتسبب في محاسبة العاصي عسكرياً فحسب بل قد يعرض الدولة كلها للخطر في بعض الأحيان، وهذه هي الأمور التي تضطرب في عقل المسؤول أثناء استقباله لتلك الأوامر الصعبة، والأوامر لا تأتي فقط من قائد عسكري بل تأتي أحياناً من رئيس الدولة شخصياً، كما في القصة التالية والتي كادت فيها باريس تُدفَن، ففي الحرب العالمية الثانية أمر هتلر بغزو فرنسا، رغم أن فرنسا كانت دولة قوية عسكرياً ولديها آلاف الدبابات، والحلفاء أيدوها بقوات كثيرة وأسلحة، فقد دعمت بريطانيا فرنسا بأكثر من نصف مليون جندي، وقدّمت هولندا وبلجيكا أكثر من مليون جندي، ولم يغنِ هذا عنهم شيئاً أمام التقنية الألمانية المتطورة والتدريب عالي المستوى الذي تتمتع به القوات ألمانية، فسُحِقت فرنسا في شهر واحد فقط وسقطت غنيمة باردة لألمانيا النازية. عيّن هتلر الجنرال «ديتريخ فون كولتيتز» حاكماً عسكرياً لباريس، وفي آخر أيام الحرب عندما ظهرت احتمالية استعادة الحلفاء لفرنسا من أيدي ألمانيا أمر هتلر بتدمير باريس تدميراً كاملاً، ولكن ديتريخ عصا هذا الأمر، وهاتفه هتلر لاحقاً وهو يصيح «برينت باريس؟!» أي «هل احترقت باريس؟»، ولولا أن ديتريخ عصا هذا الأمر لأضحت عاصمة فرنسا مدينة أطلال.