قال أبوعبدالرحمن: نسب إليَّ ابن فراج (وصدق) أنني استثنيت من حرية الفكر المطلوبة ما سلَّم به العقل من يقين أو رجحان؛ فلا يجوز له أن يُسقطه؛ فهذا حق، والبرهان على ذلك يكفي فيه هذا المثال: (هداني ربي بعقلي بمصادره الحسية والشرعية إلى أن الله حق، وأن شرعه حق، ووجدت في الشرع أن لله غيباً لا يُطلع عليه أحداً: لا نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً كوقت قيام الساعة كما في قوله تعالى مُبرئاً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من العلم بتحديد وقتها: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (سورة الأحزاب 63)، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} (سورة النازعات 42-44)، والآيات في هذا كثيرة): فهل يحق لي بعد هذا أن أسقط هذا اليقين، وأفتري على العقل بحرية فكرية مطلقة بأن يُوَلِّد استنباطات كاذبة ينسبها إلى الشرع، ويقول: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم عنده علم ما في اللوح وما خطَّه القلم) كما في بردة البوصيري الضلالية التي انتُهكتْ بها حرمة المساجد تُتلى جماعياً إنشاداً كما رأيته في المساجد البدعية في عدد من البلدان؟! وإذا قال ربي سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (سورة آل عمران 128): فهل يجوز لي بالاستنباط الكاذب أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل (مالي من ألوذ به سواك) كما في بردة البوصيري الآثمة؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شافعٌ مشفَّع لا يشفع إلا يوم القيامة عندما يأذن الله له ويرضى عن المشفوع له؛ فهل في دين الله خبر صحيح أن نطلب الشفاعة منه الآن في قبره، ثم نجعل ذلك مسوغاً لقول البوصيري: (مالي من ألوذ به سواك)؛ وإنما أمرنا ربنا أن نفرَّ إليه سبحانه، فهو رب محمد وخالقه، ومحمد المشرَّف بأنه عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وابن فراج يغتصب الحقيقة بالدعوى العارية بلا برهان؛ فيثني على البردة استئنافاً راداً عليَّ بزعمه، ولا يذكر ولا يناقش براهيني وما أوردته من كلام الشُّراح الذي يقشعِرُّ منه جِلْد المؤمن، وهذا المنهج منه لا يجوز شرعاً ولا فكراً ولا خُلقاً؛ فهات برهانك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في اللوح، وأنهلا ملاذ لنا سواه؟ وإلا فتب إلى الله، وتبرأ من البردة والبردة فيها حق وباطل، ولا يكون الشيء حقاً حتى يكون خالصاً من الباطل، والباطل يُمزج بشيء من الحق ترويجاً له وطبيعتي أن أصدع بالحق عن محبة ورحمة، مثنياً على أحبابي بما عندهم من خير وحق وعبادة شاكراً أفضالهم عليَّ، غير خادع لهم بالمجاملة على الباطل وأقبل ذلك منهم فيما يرونه عندي من مجافاة للحق؛ فأرجع شاكراً إذا تيقنتُ ذلك ولستُ ممن ينتهك أعراض المسلمين في المجالس إذا أدَّتهم الشبهة إلى باطل يعتقدونه، ولكنني أصارحهم علناً غير قاطعٍ حبلَ الوداد، فاتحاً باب المناقشة عن علمٍ وعن حبِّ الخيرِ للبشرية؛ فما بالك في إخواني في النحلة، وكلنا إخوة في الملة؟! على أنني أطيل لساني في المجالس في بعض مشايخ خيَّبوا ظنِّي، ولم يقوموا بواجبهم، والقاعدة الكريمة الشريفة: (اشفعوا تؤجروا)؛ فقال بعض هؤلاء: (سمعنا وعصينا)؛ فزادت حسرتي على فقد مثل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وما فعلته ليس غيبة، ولكنه حقٌّ؛ لتحذِّر من المعانِد المقصر المهمل مسؤوليتَه، وأن تحث أهل الخير على السعي لدى المسؤولين في استبداله وموجز القول أنني رفضتُ إلغاء المسلَّمات اليقينية والمسلمات التي لا تزال رجحانية؛ لأن هذه هي طبيعة العقل الذي نمارس تفكيره وهدايته، ولأنني على وعي بقول بعض المعتزلة كأبي هاشم: (لا يقين إلا بعد شك في كل شيء)، وعلى وعي بالشك التوسُّلي -وهو شك في الحقائق- عند الغزَّالي في كتابه المنقذ من الضلال وفي القسطاس، وعند رينيه ديكارت في تأملاته والقصد إلى شكٍّ قبل حصوله اقتطاعٌ من بِنْية العقل وهو رياضي التفكير، واقتطاع عدد من الحساب يُنتج حصيلة كاذبة وحكمتُ بضرورة الالتزام؛ لأن حرية التفكير من أجل الالتزام بضروراته يقيناً أو رجحاناً.
والوقفة التاسعة -وهي الأخيرة-: أن ابن فراج عقَّب على ما أسلفته من نور يَعْمر أدغال النفس بقوله: (وهو بهذا يلغي وصول حرية الفكر باستقلال عند الإنسان) يعني أن تجرَّد العقل عن كل شيء إلا اليقينَ أو الرجحان الذي حَصَّله حُرِّيَّةٌ تُوَصِّل إلى المراد وهذا حق؛ فذلك حرية تُوصِّل، ولكن إلى ماذا؟ الجواب: حرية توصل إلى إسقاط الضروري، وافتراء الباطل والمغالطة، واتباع الهوى وكل ذلك هو إلغاء العقل لا إعماله ليصل إلى علم صحيح وقال عن قيود العقل ناسِبَها إليَّ: "ويضع لها من القيود ما يلغيها" لا يا أخي ليس هذا وضعي، ولكنه فطرةُ الله التي فطر العقل عليها، وهداية الشرع في بناء الحقيقة على الحقيقة؛ ولهذا كان من أصول العلماء الربانيين: (ما بُني على الباطل فهو باطل)؛ لأن الباطل لا يُنتج حقيقة، وإسقاط يقين العقل يهدم الأساس الذي تُبْنى عليه حقيقة أخرى؛ فلا يكون إلا بناء الباطل على جُرف هارٍ، والنتيجة ظلمات بعضها فوق بعض ثم قال عن قيود العقل الفطرية الشرعية -والعقل خلق الله، والشرع هداية خالق العقل-: "وهذا اللون من التفكير هو ما أَضَرَّ بنا في عهودنا المتأخرة المتحرِّرة".
قال أبوعبدالرحمن: أُحيِّي فكرك الطليعي؛ فأرشدني رحمني الله وإياك إلى حرية مُطلقة يكون فيها التحرر من الخير خيراً، ويكون التحرر فيها من الشر شراً، ويكون التحرر فيها من الجمال جمالاً وأرشدني أرشدك الله إلى صفة وناموس العقل المتحرِّر من كل القيود، وأعطني نماذج من نتائجه التي يكون هجرها مُضراً بنا، ومثِّل بالنتائج السيئة في عهودنا الأخيرة التي تنتج عن عقل مقيَّد بشروط فطرته الكونية وهداية الله الشرعية له وما كان الشرع إلا لهداية العقول؛ ليكون السلوك مستقيماً، وإلى هنا ينتهي حديثي مع ابن فراج، وأما كلامه الطويل فله بيان فيما يُسْتأنف إن شاء الله من كتابي (حديث الشهر) الذي عاقتني عنه بعض العوائق.
قال أبو عبدالرحمن: موجز القول عما أُدلي به ههنا عن الصدق مع النفس في التفكير: أن الله تكفَّل ببراهين قطعية في الآفاق والأنفس دالَّةٍ على ما لم يستأثر الله بعلمه من محامده جل جلاله على الوحدانية، وتقدُّسِه على الوحدانية، ونَصَبَ لكل أمة البراهين على صدق رسول الله إليها، وعصمة شرعه الذي أنزله إليها، وجعل لهم آثار الهالكين عِبْرة؛ فاقتضت البراهينُ اليقينَ بأن السعادة والنجاة في اتباع هداية الشرع التي هي قضاء وتنزيلُ مَنْ قامت البراهين على وحدانيته في الكمال والتنزُّه، ثم نصب لهم البراهين بالمصالح التي يجنونها من اتِّباع الشرع في دنياهم قبل آخرتهم، ثم نصب لهم البراهين على الوحدانية في أنفسهم بما يرونه من لُطف الله بهم من سَرَّاء يمنحهم إياها، ومن طمأنينة ورضى وصبر يمنحهم إياها عندما ينالهم ما يؤلمهم أو يحزنهم في دنياهم.
قال أبوعبدالرحمن: وبِحُكْم تعمُّقي في أسباب الإلحاد مع قيام حجة الله على الخلق: وجدتها شبهاً طافئة، أو معاندةً ومكابرةً، واتباعَ هوى ولم أجد شبهة تحتاج إلى مناقشة وهي دالَّة على صدق الملحـد في تحرِّي الحقيقة إلا حيرتهم في تصوُّر وجودٍ بلا بداية ولا نهاية، وهذه حيرةٌ في الواقع وليست إحالةً له؛ فيقال لهم: أنتم ترون هذا الكون مجزَّأً في تغيُّر وصيرورة دائمة، ولا تتصورون له بداية ولا نهاية، وحُذَّاقكم يقولون: (هذا الكون ذرَّات مادية في كثافة وتغيُّر دائمين بلا بداية ولا نهاية)؛ فَلَمْ يستحلْ لديكم تصوُّرٌ بلا بداية ولا نهاية، ولو تصورتم أن قبل الكون عدماً فالعدم لا بداية له؛ فكيف سهل عليكم هذا وما تسمونه (العلة الكافية)(1) لنشأة المخلوقات واستمرارها وإيجاد أسبابها مطلبُكم الفكري؟! أتستطيعون الانتهاء إلى هذا المطلب وأنتم مهملون ما ترونه في كون الله من براهينَ أجلُّها واحديةُ التدبير ببراهين التمانع كما قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} (سورة الإسراء 42)، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (سورة الأنبياء 22)، وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (سورة المؤمنون 91)، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة 258)؛ فلولا خالق واحد قدير عليم حكيم مهيمن إلخ لاختل نظام الكون، فمرة يغلب من يريد طلوع الشمس من المغرب، ومرة يغلب من يريد أربعة أخماس الأرض بحراً أو العكس، أو من لا يريد على الأرض بشراً، أو من يريد إطالة أعمار البشر إلى ألف عام لكل فرد أو العكس إلخ؟ ثم هل يسهل عليكم تصوُّر كونٍ متغيِّر بلا بداية، ويستحيل عندكم ما يضطركم العقلُ إليه منإحالة وجود عظمة بلا خالق أعظم، ووجود نظام بلا مدبر واحد إلخ؟! إذن تصوُّرُ ما لا بداية له ولا نهاية عقيدةٌ مُجمعٌ عليها من أهل الإيمان وأهل الكفر إلا أن المؤمن تفرَّد بالإيمان بخالق بلا بداية ولا نهاية؛ لأنكم كما تتصورون كوناً متغيراً بلا بداية ولا نهاية، وكما يضطركم العقل إلى تفسير الكون بقدرة خالق واحد: فقد جمعنا بين الحسنيين؛ فآمنا بأن هذا الكون لا بداية له إلا بكونه مسبوقاً بوجود الله على صفات الكمال، وإنما البداية والنهاية لأجزاء الموجودات؛ لأن الله يُوجِد ما يشاء، ويُفني ما يشاء، ويعيد ما يشاء ولا نهاية للأكوان؛ لأن خالقها ومدبرها بلا نهاية حيُّ دائم باق فعَّال لما يريد، ويُوْسِعُ كما يشاء وكل شيء عنده بمقدار، وفي نصوص الشرع إضاءات كثيرة كما في قوله تعالى: {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} (سورة الواقعة 60-62)، وفي هداية الشرع أن تقول بعد الركوع: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد)؛ فهذا تنبيه إلى مشيئة الفعَّال لما يريد في المستقبل كما قال تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (سورة الذاريات 47) وحيرة الملحد حول خالق واحد هو الأول لا شيء قبله مُنْطفِئَةٌ بإيمانه بوجود كون متغيِّر لا أوَّل له، والتصوُّر الأول ضرورة برهان، والتصور الثاني إحالة برهان وهذه الحيرة ولَّدت عندهم حيرةً أخرى حول عدم يسبق الوجود، فكيف يكون هذا الكون صادراً عن عدم، وهذا حق في الإحالة لا يدفعها إلا الإيمان الصحيح بخالق هو الأول ليس قبله شيء، فلا عَدَمَ ولا سرمد ولا مكان قبله، فهو جل جلاله قبل العدم وهو الغني بنفسه، القدير بنفسه، العليم بنفسه، الحكيم بنفسه إلخ؛ فكل وجودٍ في الوجود مُعَلَّل بإرادته وفعله لا إله إلا هو سبحانه وتعالى؟ أما كيف يُوجِد من عدم فذلك ابتغاءُ تكييف لا يملك العقل ولا العلم وسائله، ونحن مُـمْتحنون بالإيمان بالغيب، محجوجون بالبراهين من عالم الشهادة الذي هو معرفة وعلم، ومنه يحصل العلم بما هو مغيب بدلالة آثاره أو بوصفٍ من خبرٍ معصوم(2)؛ فإذا ألجمك البرهان بأن خالق الكون ومالكه ومدبِّره واحد لا منازع له، ثم تسلسلت معك البراهين إلى الحالة التي يجدها المؤمن في قلبه من السكينة ومعاينة اللطافِ الجالِبةِ له محبةَ ربه: لم يطمح عقله إلى ابتغاء الكيف عن مغيِّب وهو يشهد آثار الغيب في عالم الشهادة، وسيستوي المؤمن والكافر في الإيمان يوم القيامة؛ فلا يستفيد الأخير من إيمانه؛ لأن العناد والهوى صرفاه عمَّا هو ممتحن به في دنياه من الإيمان بالغيب؛ فجَحَد حجَّةَ الله عليه على الحقائق المغَيَّبة ثم مالنا نُبْلِسُ بابتغاء الكيف ولله جل جلاله محامد استأثر بعلمها، وكل حمد لله على صفة أو فِعْلٍ فصَّله الشرع لنا فهو دالٌّ على الكمال المطلق والتنزه المطلق في ذلك الوصف وقد ذكرتُ كثيراً في بحوثي أن مجرد إيمان البخت والحيطة لا ينفع صاحبه يوم القيامة، بل لا بد من إيمان لا شك فيه وبرهان الحيطة يعني أن الشرع إن كان صادقاً وعملتُ به ربحتُ تحقيقَ وعده والنجاة من وعيده ولا خسارة عليَّ في الدنيا، والعكس بالعكس صحيح ولكنني مع هذا أرى أن إيمان الحيطة والبخت سبيلُ هدايةٍ وليس هو الهداية المُنجْية، وعلى ذلك تُحمل حجةُ مؤمِن آل فرعون رضي الله عنه ولعن فرعون بكرة وعشياً؛ وذلك فيما قصَّه الله عنه بقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (سورة غافر 28)؛ ومعنى كونه سبيلَ هداية وليس هو الهداية: أنه أخذ بالرجحان في حيرته، والرجحان برهان لا يتركه العاقل؛ فإذا اتَّجه بقيادة الرجحان إلى امتثال الشرع وفهمه فرجحانُه يقتضي أن يتعامل معه بصدق؛ فحينئذ مضمون له أن يكون إيمانه حقيقياً بلا شبهة احتياطٍ راجح؛ لأنه إن صدق في امتثال الشرع حينئذ فسيتضرَّع إلى الله بالدعاء، ويَبْرأُ من الحول والقوة إلا به، وسيرى ألطاف ربه متتابعة من طاعة إلى طاعة، وطمأنينة إلى طمأنينة وسيرى من لذة الطاعة قبحَ وأَلَم المعصية، وسيعلم أعداءه بهداية الشرع كالشيطان والهوى والتواكل، وسيرى الثمار المباركة في الدنيا من امتثال الشرع وما يحصل له من وقاية ورضى والعاصي المصرُّ يمتحنه ربه بعقوبة تكون رحمة له إن رجع، ويَمْتَحِنه بنعيم دنيوي استدراجاً له إن أصرَّ والمشاهد أن الإصرار على المعاصي سبب التسلط ولو من أهون شيء كالدابة والولد العاق وجار السوء، وامشاهد أن الإصرار على المعاصي بعد الابتلاء بالمنغِّصات كان من أجـل المكلَّف لعله يرجع، وقـد يَعْقُب ذلك نِعَمٌ دنيـوية استدراجاً، وما ضمن الله أن يعيش المُستدرَجُ مع النِّعم قريرَ العين منشرح الصدر، والبرهان على كل ذلك ما بيَّنه لنا ربنا -ومَن أصدق من الله قيلاً- من تجارِب نُحِسُّها عِياناً في وجداننا وبالحواس الظاهرة قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (سورة الأنعام 43)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (سورة الأنعام 42)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (سورة الأعراف 94)، وقال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}. وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (سورة الأنعام 125- 126)، والله سبحانه يريد أن يضل أو يهدي بمقتضى سابق علمه بما تكون عليه حال المكلَّف بحريته واختياره من غير إكراه؛ فيزيد المهتدي هدىً، ويزيد التائب الصادق ثباتاً، ويعاقب المصرَّ على الغفلة والكسل والمعاندة بالإضلال؛ ليزداد إثماً وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (سورة النحل 97)، ومن الحياة الطيبة ما دلَّت عليه نصوص الطمأنينة كقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (سورة الرعد 27-29) ولقد جَرَّبتُ على مدى عمري العجيب امبشِّرات التي لا تغبط بها كسرى على ملكه، ولا قارون على خزائنه وجرَّبت ذلَّ المعصية ومنغِّصاتها، وجربت لذة الإنابة وعبرة الموعظة والتضرع إذا جاء عَقِب تقصير أو غفلة أو ظلم للنفس وإن كانت سلفتْ له توبة؛ فإن تَعهُّدَ المسلمِ نفسَه، وأظهر لله (تلقائياً بوازع الخوف من الله مع علمه بأن الله علام الغيوب) جزَعه من ذنوبه، ولجوءَهُ إلى ربه منكسراً: فقد يرفعه الله بكل ذلك بعد رحمته إلى درجات المحسنين والبرهان النهائي على ما أنا فيه من كون إيمان الحيطة سبيل هداية وليس هو الهداية هو قوله تعالى عن الأمر الأهمِّ وهو الإيمان {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (سورة يونس 42)، ثم اقرنوا بذلك آيتي الدعاء من سورتي البقرة وغافر اللتين أسلفتهما؛ فهنالكم يكون الإيمان حقيقة بلا وسواس حيطة.
قال أبو عبدالرحمن: لا بداية للحوادث إلا أنها مسبوقة بوجود خالقها سبحانه وتعالى على صفات الكمال المطلق، وهذا هو ما قرَّره الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد غلط عليه من عنَّت له شبهتان:
أولاهما: أن هذا هو مذهب ابن رشد الحفيد عن قِدَم العالم وجواب ذلك إن أردنا مفهوم اللغة فالقدم لا يعني الأولية بلا بداية، وإن أردنا المقارنة بمذهب ابن رشد فمذهبه في القديم يعني الأوَّلية، وأن هذا الكون المشهود أول بلا بداية، ومذهب ابن تيمية أن الحوادث لا أول لها ولكنها صادرة عن الأول سبحانه مسبوقة بقدرته وتدبيره، كما أنها متتالية متغيرة فانية؛ لأن بقاءها ذو أَمَدٍ محدود وهذا هو الحق، وربنا سبحانه وتعالى غير معطَّل لحظة واحدة عن التدبير، وكل يوم هو في شأن
وأخراهما: الخطأُ في تفسير ما جاء به الشرع عن بداية الخلق، وعن تقديره قبل خلقه، وعن أول ما خلق؛ فظنوا أن هذا العالَم المشهود هو بداية الخلق، وظنوا أن شأن الله في كونه ينتهي بالدار الآخرة وليس هذا بصحيح، بل قبل خلق الله العرش وهو يخلق ويدبِّر ويفعل ما يشاء لا علم لنا بما خَلَقَ قبل أن يخلق الماء والعرش، وما ضمن لنا ربنا أن يخبرنا بكل غيب وكل خبر عن بداية الخلق والتقدير وعن أول ما خلق إنما هو عن هذا العالم المشهود ونهايةُ الدنيا إنما هي عن مصير المكلفين والسموات والأرض المعهودة، والله فعال لما يريد يحدث ما يشاء سبحانه وتعالى لا مُكْره له ولا رادَّ له عما يريد
قال أبوعبدالرحمن: وأقوال العلماء مضطربة في التعريف بالقدرية(3)، والأليق بدلالة اللغة وأحـوال الفِـرَقِ: أن القدريَّ من أثبت القدر والجـبر معاً ويُعبَّر عنهم أيضاً بالجبرية، ويقابلهم نفاة القـدر، ويتوسَّطهم أهل الحق الذين يثبتون القدر وينفون الجبرية في التكليف الشرعي؛ ولهذا الاضطراب شمل مصطلح القدرية نفاة القدر والجبرية معاً ولا ريب أن اصطلاح الجبرية القدرية ونفاة القدر والمرجئة لم يكن في عهد رسول الله ؟، وأول مذاهب الإرجاء نشأ في عهد عثمان رضي الله عنه، ولو صحَّ الخبر عن كون المرجِئة والقدريةِ مجوس هذه الأمة: لكان إعجازاً بإخبار الرسول ؟ بما سيحدث بعده، ولكن هذا الخبر لا يصح ألبتة عن رسول الله؟ على الرغم من كثرة طرق الأحاديث في قريب من معنى ذلك، وقد اغترَّ بعض العلماء قديماً وحديثاً بتحسين الحديث، وبعضهم رفعه إلى درجة الصحة، وهكذا فعل الشيخ الألباني رحمه الله تعالى؛ فنقله من سلسلة الأحاديث الضعيفة إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة!!
قال أبو عبدالرحمن: مَن غَلَبتْ عليه الصنعة في حرفته العلمية، وأهمل نظر الفكر في مادته التخصصية: فقد أهمل أوَّل وأَولى أدوات العلم، وهو النظر العقلي، والمحقق أن الحديث الضعيف؛ لسوء حفظ أحد الرواة، أو تدليسه، أو اختلاطه، أو تعرُّض كتابه للعبث ولم يكن في السند كذاب: فإن الضعيف ينجبر بطريقٍ مثله، فيكون حسناً، وينجبر بأمثاله فيكون صحيحاً لغيره؛ وذلك إذا اجتمعت الأسانيد على معنى متن واحد ولا يجوز أن تُقَوِّي بسند ضعيفٍ حديثاً بعضُ متنه باطل؛ لأن اختلاف المتون وتضاربها، وكثرة اضطراب الرواة، وكثرة الكذابين في الطرق، ووجود الصنعة في سرقة الأسانيد: كل ذلك دالٌّ على تلفيق المتون؛ فلا يتقوَّى بذلك الحديث مهما كثرت الطرق بالصفات المذكورة آنفاً وأصح ما عندهم في التحسين حديث حميد الطويل رحمه الله تعالى، وهو خبر آحاد رواه الطبراني في الأوسط، وأحد رواته مضطرب في روايته، وحميد عَنْعَن عن أنس وهو مُدَلِّس، ولا نضمن أن كل روايته عن الأثبات من أصحاب أنس رضي الله عنه، والطبراني في القرن الرابع؛ فكيف نتلقَّى هذا الخبر النادَّ بهذا المستوى في القرن الرابع الهجري وحديث أنس رضي الله عنه محفوظ، وتلاميذه الثقات كُثُر، وأئمة الحديث أحرص الناس على جمع الحديث وتمحيصه في القرون الثلاثة الأولى الممدوحة، وقد استقرَّت فيها دواوين السنة المعتمدة؛ فهل فاتهم هذا الخبر ولم ينكشف إلا في القرن الرابع؟؟!! إن هذا لعجب!!، وههنا ظاهرتان عن الاختلاق والوِجادات التي توضع لها أسانيد صحيحة أو مقبولة ولا يظهر اسم الواضع؛ لأن الإسناد إلى الوِجادة قد لا يذكره راوي الصحيفة؛ فعن الظاهرة الأولى قال أبومحمد عبدالرحمن بن أبي حاتِم محمد بن إدريس الرازي (-327هـ) رحمهما الله تعالى: حدثنا عبدالرحمن: نا أبوزرعة: نا عمرو بن خالد الحراني: نا زهير بن معاوية: نا محرز أبورجاء (وكان يرى رأي القدر، فتاب منه)؛ فقال: لا ترووا عن أَحد من أهل القدر شيئاً؛ فوالله لقد كنا نضع الأحاديث نُدخل بها الناس في القدر(4) نحتسب بها؛ ولقد أدخلت في القدر أربعة آلاف من الناس قال زهير: فقلت له: كيف تصنع بمن أدخلتهم؟ قال: هو ذا أُخرجهم الأول فالأول"(5)
قال أبوعبدالرحمن: مثل هذا لا يجوز قبول روايته وإن تاب، ولا نعتقد الحيلولة بينه وبين عفو الله، ولكن لا تطمئن قلوبنا إلى قبول روايته وقد تجرَّأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا ابن أُويس كان يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجا له في الصحيحين، وتعلل الحافظ ابن حجر بقوله: "ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم انصلح"(6)، وقال: "ولا أخرج له البخاري مما تفرَّد به سوى حديثين، وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري، وروى له الباقون سوى النسائي فإنه أطلق القول بضعفه"(7)
قال أبوعبدالرحمن: ما تركه النسائي لضعفه؛ بل لأنه يضع الحديث، والاحتياط لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب؛ فلا يُقبل ما تفرَّد به، ولا تُقبل زيادته على ما رواه الثقات، ولا تقبل مخالفته لما رواه الثقات والظاهرة الثانية ذكرها محمد بن حبان التميمي (-354هـ) رحمه الله تعالى قال: "ومنهم من كان يكذب ولا يعلم أنه يكذب؛ إذ العلم لم يكن من صناعته، ولا اغبرَّ فيها قدمه كما قال بعض أهل البصرة: كان بالعوقة(8) شيخ عنده صحيفة: عن حميد: عن أنس (رضي الله عنه)، وكان مؤذنهم؛ فلما مات قيل لي: (إن في ذلك المسجد شيخاً يحدِّث بتلك الصحيفة عن حميد نفسه) قال: فأتيته فإذا شيخ عليه سجادة وأثر الخير فيه بيِّن؛ فقلت له: صحيفة حُميد؟ فأخرجها إليَّ وإذا هي تلك الصحيفة نفسها، فقلت: اقرأ فأخذ يقول: حدثنا حميد حتى أتى على آخرها، فقلت له: في أيِّ موضع رأيت حُميداً؟ قال: لم أره قلت: فكيف تحدِّث عمن لم تره؟ قال: وهذا لا يجوز؟ قلت: لا قال: كان في هذا المسجد شيخ يؤذن، ويحدِّث بهذه الصحيفة؛ فلما مات وَلَّوني الأذان مكانه، وأعطوني الصحيفة، وقالوا: أذِّن كما كان يُؤذِّن، وحدِّث كما كان يُحدِّث فأنا أؤذن كما كان يؤذن، وأحدِّث كما كان يحدِّث"(9) ثم إن متن الحديث ليس صحيحاً بإطلاق، فالإرجاء لا علاقة له بالمجوسية، وإنما دخل الإرجاء في عصور متأخرة أفكارٌ غريبة، ولا علاقة لها أيضاً بالمجوسية قال يحيى بن الحسين في كتابه الرد على المجبِّرة القدرية: "قيل: وما القدرية يا رسول الله، وما المرجئة؟ فقال: أما القدرية فهم الذين يعملون المعاصي ويقولون: إنها من الله قضى بها وقدَّرها علينا وأما المرجئة فهم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل ثم قال صلى الله عليه وآله: القدرية مجوس هذه الأمة"(10) وأما نُفاة القدر فلهم شَبَهٌ بالمجوسية من وجه أنهم جعلوا أفعالهم من خلقهم، وأما المجوس فادعوا خالِقَين من غير أنفسهم: خالقاً للخير، وخالقاً للشر وكما أسلفت فالإيمان بالقدر خيره وشره ثابت بالنصوص الصحيحة، وجَحْدُه كفرٌ، ولكنني أُحذِّر طلبة العلم من الإجمال الذي يأتي في شروح العلماء لبعض نصوص الشرع في العقيدة مثل حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي؟ أنه قال: ما مِنْ نَفْس مَنْفُوسَةٍ إلا وقد كتب الله مكانها مِنَ الجَنَّةِ أو النار، وإلا وقد كُتبتْ شَقِيَّة أو سعيدة فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكُثُ على كِتَابنَانَدَعُ العمل؟ فقال: اعْمَلُوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له: أمَّا أَهْلُ السَّعادة فيُيَسَّرُونَ لعمل أَهْلُ السعادة، وأمَّا أهل الشَّقاوة فيُيَسَّرُونَ لعمل أَهْلُ الشَّقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (سورة الليل 5 - 10)"؛ فمن الإجمال في فهم هذا الحديث الكريم قول العلامة ابن رجب رحمه الله تعالى: "ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلَّاً ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب للسعادة أو الشقاوة"(11)
قال أبو عبدالرحمن: هذا لا يكفي، بل لابد من جلاء الموقف بأن ما سبق به القضاء حسب الأعمال هو علم الرب جل جلاله بمصير المكلف بما سيفعله عن قدرته وحريته التي منحه الله إياها، وليس قضاء عليه بالجبر ثم يُقرن ذلك بدلالة الآيات الكريمة الواردة في الحديث المذكور؛ فالتيسير للخير حاصل لمن علم الله أنه يطيع ربه بحريته واختياره مع توفيق الله له؛ لأنه فعل الأسباب، وانتفع بنظر العقل، وتعهَّد نفسه عن الغفلة والكسل، وبرئ من الحول والقوة إلا بربه وأن المُـيَسَّر للشر مُعاقب من ربه: لعناده واتباعه الهوى، وإيثاره العاجل، وإهماله الأسباب التي لم يهملها لأمور دنياه، وغفلته وكَسَله وبحمد الله ورحمته وإحسانه عامل ربنا المطيعَ برحمته، وعاقب العاصي المصرَّ بعدله، ولم يحاسب أحداً عند فقده القدرة والحرية، بل يضاعف الأجر والمثوبة لآلام المكلَّف وتحسُّره على لذة الطاعة التي تركها عجزاً، ويكتب له ثواب ما كان يفعله من الخير أيام قدرته وحريته، والله المستعان.
الهوامش
(1) قال أبوعبدالرحمن: يريدون بالعلة الكافية سبباً تنتهي إليه كل الأسباب في بداية وجود الكون، والملاحدة ينكرون السبب النهائي، ويُصِرُّون على قِدم الكون بمعنى أوليته بلا بداية، والمؤمنون -وإن كان إيمان بعضهم إيمان ربوبية وكمال لا تألُّه فيه- يُعَبِّرون بالعلة الكافية عن إرادة الله، وأن ذا الإرادة والقدرة جل جلاله أوَّلٌ بلا بداية وأسماء الله توقيفية؛ فلا يُسمَّى الله سبحانه وتعالى علة كافية؛ لأنه لا يسمى إلا بما سمى به نفسه، وأما إطلاق العلة الكافية على إرادته وقدرته للأسباب التي أوجدها بإرادته وقدرته أيضاً: فلم يقم عندي برهان على المنع منه.
(2) قال أبوعبدالرحمن: المعرفة معاينةُ الحس مباشرةً، والعلم معرفة وزيادة، وتلك الزيادة ما يُعرف بممارسة الحس تجربة من الصفات والأحوال والخصائص، وما يحصل بالاستنباط، وما يدل عليه الحس من وجود غير محسوس.
(3) انظر اضطراب العلماء في ذلك بكتاب موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي للدكتور سَميح دُغيم 2/1018- 1021/ مكتبة لبنان ببيروت - الطبعة الأولى عام 1998م، وانظر معجم ألفاظ العقيدة لأبي عبدالله عالم عبدالله فالح ص324-328 / مكتبة العبيكان بالرياض - الطبعة الثانية عام 1420هـ.
(4) قال أبوعبدالرحمن: يعني أنهم يُدخلون الناس بها في عقيدة نفي القدر.
(5) كتاب الجرح والتعديل 2/32-33 -دار الكتب العلمية- وهي تصوير لطبعة حيدرآباد الدكن
(6) تهذيب التهذيب -دار الكتب العلمية- طبعتهم الأولى عام 1415هـ 1/282، ودعوى أن كذبه ووضعه كان في شبيبته ثم انصلح احتمال مرسل جاء بصيغة (ولعل)، وفيه وجوه من الضعف كثيرة؛ فلا يحل الركون إلى روايته إذا انفرد.
(7) هدي الساري ص557، وانظر عنه تهذيب الكمال 3/124-130، وانظر ميزان الاعتدال 1/222-223 - دار الفكر، وسير أعلام النبلاء 10/291-395 وقال ص393: "قلت: الرجل قد وثب إلى ذاك البر، واعتمده صاحبا الصحيحين، ولا ريب أنه صاحب أفرادٍ ومناكير تنغمر في سعة ما روى؛ فإنه من أوعية العلم، وهو أقوى من عبدالله كاتب الليث".
قال أبوعبدالرحمن: هذا لا يسوِّغ الرواية عنه، والعلم شيئ والثقة شيئ آخر، وانظر تاريخ الإسلام للذهبي أيضاً 5/534-535، وقال ص535: "استقر الأمر على توثيقه، وتجنُّب ما ينكر له" ولا اعتداد بالاستقرار على الخطإ وقال ابن حزم في المحلى 12/216 بتحقيق الدكتور إحسان عباس: "ابن أبي أويس خرَّج له البخاري إلا أن الموصلي الحافظ الأسدي ذكر أن يوسف بن محمد أخبره: أن ابن أبي أويس يضع الحديث وهذه عظيمة " قال هذا عن إسناد فيه ابن أبي أويس (وهو إسماعيل) عن أخيه (هو أبوبكر)، وكلام أبي محمد عن أبي بكر أخيه، وكلاهما ضعيفان، وأبوهما ضعيف، والذي يضع الحديث إسماعيل وعند ابن حجر في التهذيب: "قال أبوالفتح الأزْدي: حدثني سيف بن محمد: أن ابن أويس كان يضع الحديث".
(8) قال أبوعبدالرحمن: رجَّح محقق كتاب المجروحين أنها (العَوْقَة) لا الكوفة، وهي محلة بالبصرة
(9) كتاب المجروحين - دار المعرفة ببيروت عام 1412هـ.
(10) موسوعة مصطلحات علم الكلام 2/1210، وانظر ص1210-1211 عن تطور مذهب الإرجاء، وانظر عن أقسام المرجئة معجم ألفاظ العقيدة ص20 والحديث بلا إسناد في كتاب الرد على المجبِّرة القدرية لأبي الحسن - الملقب بالهادي إلى الحق من الزيدية - يحيى بن الحسن بن القاسم (245-298هـ) رحمه الله تعالى ضمن رسائل العدل والتوحيد 2/67 دار الشروق بالقاهرة - الطبعة الثانية عام 1408هـ.
(11) جامع العلوم والحكم 1/175 -دار السلام بالقاهرة - طبعتهم الأولى عام 1419هـ.