كتبت غير ذات مرة عن ضرورة وجود هيكلة واضحة لأي خطاب فكري معايش ضماناً لاستمراره وتعزيز وجوده وإزالة ما يعتريه من غموض من قبل الغير ثم لتطويره والبحث عن سبل لنشره عبر أدوات إقناع مؤثرة. جميع ماسبق لا يمكن حدوثه في ظل غياب ذلك الهيكل وعدم وجود رمز على رأسه وقيادة فاعلة ترسم خارطة الطريق..
... لذلك الفكر وتتابع تطبيق منهجيته وتقوم على تصحيح ما قد ينتج من خطأ في تنفيذه وما قد يخلف من لغط لدى العوام، خصوصاً في ظل وجود بيئة خصبة لنشوء العديد من الأفكار، فإن لم يكن هناك رمز لخطاب فكري معايش فذلك يعني وجود مساحات شاسعة لمن يرغب اللعب على أوتار ذلك الخطاب بغية تحقيق هدف معين مرسوم ومخطط له سلفاً حتى وإن لم يكن ذا مضمون وخالياً من الفكر ويسيطر عليه الخواء الفكري وعنوانه النقد فقط كوسيلة للمنازلة والمنازعة، وبالتالي لإسقاط ذلك الفكر، فالخطابات الفكرية التي نشأت على قلتها ولا زالت موجودة بنجمها اللامع كخطاب فكري ولكن دون رمز، وكثيرة هي الخطابات الفكرية التي نشأت وأفل نجمها بحكم التغييرات المناخية الفكرية أو العقائدية وليس بحكم زوال الرمز، أقول كثيرة هي تلك الخطابات التي لم تجد من ينتقد أفكارها أو ينازع نشاطها في ظل وجود رمز لها يخشى الكثيرون الاقتراب من انتقاد خطابه أو محاولة إسقاطه تحاشياً لرد فعل علمي ومدروس، في حين أن من كان ينوي الانتقاد أو المنازعة أو حتى إقامة حراك مناوئ لا يحمل خطاباً في الغالب، وبالتالي يخشى الهزيمة أمام ثقل مرتب ومنظم يحمل معاني ذات توجه معين يُسقط كل من يحاول المساس به أو الاقتراب منه.
أولئك الذين فقدوا توهجهم وأفل نجمهم بزوال خطابهم بحكم ما ذكرت آنفاً ما يلبثوا أن يحاولوا العودة بسرعة البرق من خلال إعلانهم توجهاً جديداً أزعم أنه يقصد إعادة بريق فقده عبر سنوات غابت فيها معالم خطابه أو توجهاته الفكرية التي تبناها بحكم تقادم العهد عليها وعدم استمرار أهليتها للوجود ما جعل الدفاع عنها والاستماتة دونها أمراً يأخذ صيغة الحماقة، ثم لإحساسه بعزلة الفكر الذي ينتهجه وتناقض بقايا آثار وخز الأفكار التي كان منهجه أو فكره أو خطابه يحملها في مقابل تغييب المشروع والخطاب الذي أصبح مزيفاً بفعل قدمه وبزوغ نجم جديد قديم لم يكن له فيه دور ولو هامشي.
يأخذ الكثير من هؤلاء نهجاً جديداً بعد أن غابت شمس أفكارهم وماتت جذور خطاباتهم يتمثل في تقربه من أعداء التيار الأكثر انتشارا وشهرةً بغية الانضمام لصفوفه زاعماً أنه يحمل ثقلاً مؤثراً يزيد من لغة العداء للفريق الذي تقرب منه بعد أن كان عدواً له من خلال منافحته لعقود من الزمن لمبادئ الخطاب الذي يحمله والذي يتعارض شكلاً ومضموناً مع أهم عنوانين خطاب من يتقرب لهم اليوم، وبما أن الخطاب أو الفكر الأكثر انتشارا وتوسعاً يمثل خطراً على التيار الآخر، فلا مانع من قبول هذا العزيز الذي ذل باعتبار وحدة المصير ووحدة العدو بعد أن كانوا متباعدين يكره بعضهم بعضاً.
يبدأ الاثنان بتنظيم صفوفهم وتوحيد كلمتهم واستغلال كل فريق لقوى الفريق الآخر في نهج لا يخلو من الحذر فقد ألف بعضهم غدر بعض، إلا أن وحدة العدو تحتم التعاون والعمل على أساس الفريق الواحد حتى لو كان الشك يملأ جنباتهم، بيد أن الموقف يتطلب أن نتعاون ونجيش أنفسنا ونحشد قوانا بغية إيقاف زحف هذا الفكر القادم الجديد والذي يتمتع بقبول غالبية الناس وينتشر كانتشار النار بالهشيم ما يسبب خطراً محدقاً يجب العمل بشكل جاد وسريع على إخماده ونشر الفرقة بين أتباعه خصوصاً في ظل عدم وجود رمز له يقوم بتوحيد صفوفهم ورسم خططهم، فينهالون في كل مناسبة عليهم بالتهم بشكل عشوائي ويصفونهم بأعداء الدين وأنهم يحاربون كل ما هو ديني بل قد يذهبون لما هو أبعد من ذلك بوصفهم بأنهم يحاربون الرأي الأخر بينما يزعمون أنهم من دعاة حرية الرأي وأنه لا وجود لهم في محاولة يائسة بائسة لإلغائهم.
وإن لم يتفقا، أو إن اتفقا واكتشف ذلك النجم عدم وجود هالات تنبعث من نجمه أو اكتشف أن من التحق بهم لديهم ما يكفي من رموز وما هو إلا تكملة عدد في صفوف ذلك الفريق، أخذ ينسحب بهدوء بغية الإبقاء على حسن العلاقة مع هذا الفريق، وحيث إنه لا يوجد برغم خصوبة المناخ مزيداً من الخطابات التي يمكن أن يلجأ إليها، يتجه نحو الشأن العام متسلحاً بعدد من المطالب التي تدغدغ مشاعر الناس وهم الغالبية في هذا الصراع ولا ميول لغالبيتهم بل هم متعطشون لمن ينافح عن مطالبهم المشروعة من سكن وتخفيض التكاليف المعيشية وتوفير الوظائف ونحو ذلك من المطالب التي ما إن تحدث أحدهم مطالباً بها حتى صفق له الجميع. هذا المنحى الجديد يشبع رغبة صاحبنا، فقد اعتاد سماع التصفيق وألفه وبات يشتاق إليه فيبحث عنه بشتى الطرق حتى على حساب التكرار الممل الممزوج بسذاجة الطلب وسوء التوقيت.
يكاد ينحصر صراع هؤلاء مع أنفسهم ومع من حولهم في إيجاد مجد زال عنهم وعزة باتت من الماضي، فينهالون بدايةً بالسباب والتنكيل بالخطاب المنافس ثم البحث عن صهوة أخرى يمتطونها بغية تحقيق نصر يعيد لهم توهجهم متناسين عن قصد أو غير قصد أن الخطابات الفكرية الحديثة ليست مقيدة ولا مقننة ولا هي مستوردة أو مجلوبة وأن من أهم مبادئها خضوعها للمجتمع الذي تعيش فيه وأن هدفها الإصلاح لا السلطة أو قلب أنظمة الحكم في البلاد التي تتنامى فيها، محكومة بأطر سياسية في البلاد التي تتواجد فيها، وكونها تخضع بالتالي للسلطان إنما ذلك لا يمنعها من مطالبته بالإصلاح المنشود، وأن هموم أتباع ذلك الفكر أو الخطاب لا تتمحور في نقد أحد بعينه، إنما نقدها لكثير من القضايا التي تقف حائلاً بين الإصلاح والتقدم المنشود وبين إرث متزمت متراكم متكدس من العادات والتقاليد البالية، وإن انتقاد جهة ما لا يكون لذاتها بل لقيمتها ولمخرجاتها.
إذا أردنا أن نسيء لأي نهج فكري أو خطاب فكري جديد فيمكننا بسهولة مقارنتنا إياه بما يأتي من الغرب جاهزاً كالإمبريالية أو الماركسية أو الشيوعية التي تعلي حرية العقل على المعتقد أو غيرها، لذلك على الخطاب الجديد أن يبحث عن رمز له يبين حقيقة الفكر وتوجهه وعلاقته بالمعتقدات وتبيان عدم رغبة أتباعه دفع أنفسهم خلف خلق بلبلة سياسية أو لغط سلطوي لأنها ببساطة موجودة وستستمر ولن تبيد ويبيد معها أتباعها و يأفل بأفولها نجومها رموزها كما حدث مع غيرها، عندها فقط لن يستطيع كائن من كان أن يحاول النهوض من سباته واستعادة نجمه الذي أفل على أكتاف ذلك الخطاب سواءً اتبع الخطاب المنافس أو دغدغ مشاعر العوام بمطالباته الإصلاحية.
إلى لقاء قادم إن كتب الله
dr.aobaid@gmail.com