كتب معالي الأخ الأستاذ حسن أوريد روايته عن المورسكي، وهي مزيج بين الرواية والتاريخ والنقد، ولست بصدد سردها أو نقدها؛ فهذا ليس مقاماً معيناً بذلك، لكنه من الأنسب والأجدى أن نستخلص من بعض ما فيها شيئاً من العِبَر التي قد يستفيد منها من عاش في عصرنا وممن سيعيش بعد هذا العصر.
الرواية تدور حول رجل مورسكي عاش فعلاً أحداثاً جرت بعد طرد المورسكيين، وهم الأندلسيون الذين نُصِّروا قسراً، ومع ذلك أُخرجوا من الأندلس للظن بأن نصرانيتهم لم تكن صادقة. وقد استطاع هذا المورسكي المسمى أحمد شهاب الدين أفوقاي أن ينجو بجلده من محاكم التفتيش، ويرسل لنا صورة عن مغامرته ومناظرته وما حدث له في الأندلس والمغرب وفرنسا وهولندا، التي وصلت إلينا عبر كتابه الذي سماه (ناصر الدين على القوم الكافرين). وقد حوى كتابه المذكور شيئاً من الأحداث التي وقعت في عهد السلطان أحمد المنصور السعدي وابنه زيدان، الذي نازعه أخوه الشيخ المأمون السلطة؛ فأحال هذا النزاع حكمهم إلى غيرهم بعد أن ضعفت شوكتهم.
كان الكتاب نموذجاً لحوار بين الحضارات، كُتب من وجهة نظر الكاتب، فقد نصب نفسه مدافعاً عن الإسلام بعد أن قرأ في صباه على يدي والده خفية وحذراً من محاكم التفتيش المرعبة في زمانه ومكانه آنذاك، ويزيد معارفه بعد أن ينتقل إلى المغرب والحجاز ومصر وتونس، وينهل من علماء هذه البقاع الإسلامية الكثير من المعارف، وينال منهم دعماً معنوياً كبيراً، وتشجيعاً جعله يحط رحاله في فرنسا وهولندا، ويناظر علماءها في الأمور الدينية.
الحقيقة أن المورسكيين الذين عاشوا في الأندلس كانت ثقافتهم خليطاً من الثقافات المتباينة في رأي أهل ذلك العصر، وهي في الحقيقة أسهل بكثير وأيسر مما يرون فيها من التباين.
من العجب أن المورسكيين الذين كانوا مسلمين، وربما ظلوا كذلك في عصر السيطرة الكاثوليكية المتعصبة، قد عاش آباؤهم في ظل الحكم الإسلامي المتسامح مع عدد كبير من النصارى، الذين يطلق عليهم مستعربون، وعدد آخر من اليهود، ولم يكن هناك من أُجبر على ترك دينه بالقوة والملاحقة من قِبل محاكم التفتيش أو غيرها من أساليب المتابعة والإجبار.
سأورد وثيقتين من وثائق محاكم التفتيش، أوردهما معالي الأخ الأستاذ حسن أوريد نقلاً عن نص باللغة الفرنسية، يعطي صورة عن ذلك القرار غير المنصف، الذي تمثل فيه ثقافة إقصاء الآخر دون وجه حق، ولم يكن ذلك الآخر دخيلاً أو مهاجراً أو لاجئاً بل ابن تلك البلاد وثقافتها التي سادت ثمانمائة قرن، إضافة إلى قرن آخر تحت الحكم الكاثوليكي، الذي أصدر النص الآتي: «وسوف يتم تسليم المورسكيين إلى أيدي السلطة، وستتم مصادرة أملاكهم، وهكذا يتم اجتثاث جرثومتهم الخبيثة من هذه الممالك بفضل محاكم التفتيش والقوانين الجنائية الجديدة، وهكذا تستطيع جلالتكم أن تبطش بالمورسكيين وتقضي عليهم من غير حاجة إلى التوفيق.. وإن ارتأى جلالتكم ليس بكاف فما عليها إلا أن تأمر بما يليق لإطفاء هذا اللهيب المنتشر، بل إن هذا الشر أكبر مما يتوقع، وإن ظهرت حصافة هذا الرأي فليُطرد هؤلاء من مماليكنا، وليقطع دابرهم نهائياً». انتهى النص.
النص الثاني: «إن ذنوب هؤلاء المورسكيين لواضحة وضوح الشمس لمن له أعين يبصر بها، وأيد يلمس بها، من أن الطاعون الذي ضرب ممالك إسبانيا وأفرغها في السنوات الأخيرة يأتينا من هؤلاء، وكل الأوبئة والأدواء والمشاكل التي نعانيها. هم مصدر الكوارث التي حلت بسفننا البحرية الملكية» انتهى النص.
لقد سافر نصر الدين إلى فرنسا، وكان له لقاء مع أساقفتها، وحدث نقاش حول الإسلام والزواج والتثليث وغير ذلك، كما سافر إلى هولندا، وتحدث عن الحرية والتعاطف مع المورسكيين.
في عصرنا الحاضر أصبح التواصل متيسراً، وفهم الآخر أكثر سهولة، ومع هذا نجد لدى بعض المجتمعات غرائب أفكار تحمل مقاصد سياسية أو غايات غير معلومة تصل جلها إلى رفض الآخر. ومن المؤسف حقاً أن ذلك موجود لدى فئات مجتمعية قليلة التعليم، وأخرى متقدمة.
نجد طوائف لا تقبل طوائف أخرى، ودولاً ترفض ثقافات لا تثق بها، مع أن التفاهم ممكن. والأكثر ألماً أن ترفض شعوب وافدة شعوب أخرى كانت تعمر البلاد، وتعيش فيها مئات السنين، ومع هذا فلا نجد لدى الدول الفاعلة والمتحضرة في عالمنا رفضاً عملياً لتطبيق هذا الفعل المشين. ولهذا فلا فرق فيما يرويه لنا أحمد أفوقاي، عن بعض من أهل عصره، وأهل زماننا الذين اخترعوا كل هذه المخترعات المادية الرائعة.
فمتى نتغير إلى ما هو أحسن؟