الغضب جيشان في النفس وانفعال يسيطر على الحواس والأعصاب، ليأتي الإنسان بأمور لا تحمد عقباها، فكم من نفس قتلت نتيجة الغضب، وكم من أموال أهدرت مع سيطرة الغضب وكم من بيوت فوضت، وأسر تفككت، وأطفال أصبحوا أيتاماً مع وجود الأبوين نتيجة الطلاق الذي تم بسبب الغضب،
إلى غير ذلك من المشكلات التي تحدث في كل مجتمع سببها الغضب، وعلاج ذلك في صيدلية الإسلام، فقد أخرج البخاري حديثاً رواه أبو هريرة، بأن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني؟ ولا تكثر علي؟ أو قال: مرني ولا تكثر علي، أو قال: مرني بأمر وأقلله لي، كي لا أنسى، قال: (لا تغضب) فكرر مراراً قال: (لا تغضب). فالغضب نوعان: محمود وهو ما كان لله ولدينه، وغضب ممقوت وهو هذا ومن هنا جاءت دعوة رسول الله لهذا الرجل وغيره، بالتوجيه بالنفس البشرية دائماً لمغالبة الغضب، ومحاولة كبح جماح الشر من النفس، حيث جذوة الشرور من آثار الغضب، وفي كتاب الله جل وعلا وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم طريق مستقيم، لمن يريد أن يرسم لنفسه أسلوباً، يتقي به بمقابيل الغضب، وذلك بترويض النفس، وتعويدها على كظم الغيظْ، واحتساب نتيجة ذلك عند الله أجراً مدخراً.
إن النفس البشرية، كما وصفها أحدهم، كوهج الناس، تبقى هادئة مطمئنة، كالنار المفيدة للناس، في مصالحهم ومعاشهم، فإذا وضع عليها ما يزيدها توهجاً، واشتعالاً، فلا بد أن يكون بحكمة وروية، وإلا زاد لهبها واشتد سعيرها فيحصل الضرر بدل النفع، ولكي يخمد هذا اللهب، فإنه لا بد أن يعالج الأمر بحكمة حتى لا يتسع الضرر، وكذلك إذا اشتد الغضب، فعلاجه ذكر الله كما جاء في الحديث.
إذ في كتاب الله تهذيب للنفوس المستبصرة لكي تدرك أضرار هذا التفاعل الجسماني، وتسترشد بما أبانه عز وجل من علاج للعمل به، يقول سبحانه في صفة الفئة المؤمنة: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران.
وبين هذا الأثر، صاحب الظلال بقوله: إن الغيظ وقر، على النفس حين تكظمه، وشواظ يلفح القلب، ودخان يغشي الضمير، فأما حين تصفح النفس، ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبردُ في القلب والسلام في الضمير.
كذلك تعمل النفوس في هذا الحق، بنفس البواعث، ونفس المؤثرات، فالغيظ انفعال بشري تصاحب أو تلاحقه فورة في الهم، فهو إحدى دفعات التكوين البشري، وإحدى ضروراته، وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة، المنبعثة من إشراق التقوى، وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة، من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع، من آفاق الذات والضرورات، وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى، وهي وحدها لا تكفي فقد يكظم الإنسان غيظه، ليحقد ويضطغن فيحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة، ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين وأن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن، لذا يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك.
الغيظ الكظيم في نفوس المتقين، إنها العفو والسماحة والانطلاق، فالله جلَّ وعلا يغضب على من كفر به، وغضبه لا فلاح بعده، كما قال سبحانه {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} طه81 (الظلال 4 : 73) وأنبياء الله يغضبون، ولكن غضبهم لله، وغيرة على محارم الله، فقد جاء في القرآن الكريم عن غضب موسى بعد ما اتخذ قومه العجل وعصوه، ونبينا عليه الصلاة والسلام يغضب ويشتد غضبه عند ما تنتهك محارم الله، أما في غير ذلك فكان مثالاً للحلم وحسن الخلق.
وقد أعطى رسول الله وصفات لعلاج الغضب، ومحاولة التغلب على نزعات النفس، فقد أخرج أبو داود حديثاً عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب غضبه، وإلا فليضطجع» وما ذلك إلا أن القائم متهيء للحركة والبطش، والقاعد دونه في ذلك، أما المضطجع فدونهما، ولعله إنما أمره صلى الله عليه وسلم بالجلوس، والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه بادرة يندم منها، فيما بعد، وهذا من سر أدركه صلى الله عليه وسلم من خفايا وطباع النفس البشرية.
وفي أحاديث الصيام يخبر صلى الله عليه وسلم: عن حركة الشيطان في جسم الإنسان، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأن الصيام يضيق المجرى على الشيطان، فيقل الغضب مع الصيام، لضعف سيطرته على الإنسان بحرصه على الصيام.
وفي مجال العلاج من الغضب، يخبر صلى الله عليه وسلم بأمور تطرد الشيطان، وتسكّن النفس من هيجان الغضب فقد أخرج أبو داود عن أبي وائل القاص (عبدالله بن بجير الصنعاني) قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي، فكلمه رجل فأغضبه، فقام وتوضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خُلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ.
كما أخرج البخاري ومسلم أبو داود، حديثين عن سليمان بن صرد، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: أنه اسْتَبّ رجلان عند رسول الله ونحن عنده، فبينما أحدهما يَسُبُ صاحبه مغضباً قد أحمر وجهه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لذهب عنه ما يجد».
فانطلق إليه شخص فقال: تعوذ من الشيطان الرجيم، فقال: أيُرى بي بأس؟ أمجنون أنا؟ اذْهَبْ، قال فجعل يزداد غضباً.
والمادّيون يدركون أثر الغضب على النّفوس، ونتائجه في المجتمعات، لكن علاجاتهم المادّية وعقّاراتهم المادّية، الطبية لم تفلح في ذلك بل إنه قد أحدث آثاراً ضارة، ونتائج سلبية أخلت بتوازن الجسم وأحدثت في بعض المجتمعات فساداً، بانتشار المخدرات، وإدمان المسكرات، باعتبارها مهدئة للأعصاب، ومنسية للهموم، فصارت مثل من يطفئ النار بالزيت، وقد وصف الخمر شاعر عربي بقوله: وداوني بالتي كانت هي الداء، وما جعل لله أمة محمد صلى الله عليه وسلم: دواءها فيما حرّم عليها.
إن العلاج يكمن في فهم حقيقة هذا الدين، وتطبيق وصفات مصدري التشريح فيه، القرآن والسنّة وبالأمور المباحة.
وإن من رحمة الله بعباده، أن أعمال الجسم الداخلية، والتفاعل الكيميائي في تنظيم الغداء، لا يتأثر بهذا وإلا لتعطلت الحركة ومات الإنسان، يقول كارل العالم الفرنسي، الذي نال جائزة نوبل عن أبحاثه الطبية عام 1912م: مهما يكن من أمر متاعبنا وأفراحنا، وبواعث الانفعال في عالمنا، فإن أعضاءنا لا تعدّل نظامها الداخلي، إلى أية درجة كبيرة، وإنما تستمر المبادلات الكيميائية للخلايا والأخلاط ثابتة، فالدم ينبض في الشرايين، ويتدفق بسرعة تكاد تكون ثابتة، في شُعيرات الأنسجة التي لا تحصى ولا تعد، وهناك خلاف كبير بين انتظام الظواهر التي تحدث داخل أجسامنا، والتنوع بعيد المدى الذي يحدث في بيئتنا.
فإن حالاتنا العضوية ثابتة جداً، ولكن هذا الثبات لا يساوي حالة من الهدوء أو التوازن.
بالعكس إنه راجع إلى النشاط المستمر للجسم كله، فلكي يظل تركيب الدم ثابتاً، ودورته منتظمة، يحتاج إلى عدد كبير من العمليات الفسيولوجية، كما تتحقق سلامة الأنسجة، بواسطة الجهود المتقاربة التي تبذلها الأجهزة الوظيفية كلها، وكلما ازداد عدم انتظام حياتنا وعُنفها، كلما عظمت هذه الجهود، إذ يجب ألا تفسد علاقتنا القاسية، بالعالم الكوني، سلام خلايا وأخلاط عالمنا الداخلي على الإطلاق (1)، فالعلم بالخفايا الجسمانية، مادياً وتحليلياً إذا امتزج بالعلم الشرعي، يجعلان صاحبهما ينظر بنور الله، إلى أسرار عظمته سبحانه، في أعظم مخلوق على وجه الأرض، وكرّمه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (2).
وهو الإنسان الذي من كرامة الله، تكليفه بالأوامر الشرعية وإرسال الرسل إليهم، لتبليغهم شرع الله وما يحبه سبحانه، فهم مأمورون بعبادة الله سبحانه على الوجه الذي يرضيه جل وعلا كما قال وقوله حق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}(3) ورسول الله يأمر الإنسان بحسن الخلق، وعدم الغضب.
(1) ينظر كتابه: الإنسان ذلك المجهول ص222.
(2) سورة الإسراء آية 70.
(3) سورة الذاريات الآيتين 56-57.