في شهر أبريل عام 1897م ظهر في فرنسا كتاب بعنوان «سر تقدم الإنجليز السكسونيين»، ألفه مسيو أدمون ديمولان، قارن فيه بين التربية في فرنسا وألمانيا وإنكلترا، وخلص إلى أن التربية في إنكلترا متفوقة على بلاده وبدرجة لا تخفى على ذي بصر وبصيرة، قال في مقدمة الكتاب: (نحن لا نكاد نخطو خطوة في العالم إلا وجدنا الإنكليز أمامنا)، ويدلل المؤلف على أفضلية الإنكليز وتقدمهم على غيرهم، بما ورد في الإحصائية الرسمية السنوية التي تنشرها قناة السويس بعدد المراكب التي عبرت القناة خلال عام، يقول:
- عدد المراكب الفرنساوية 160 مركباً.
- عدد المراكب الألمانية 260 مركباً.
- عدد المراكب الإنكليزية 2262 مركباً.
واضح الفرق العددي في المراكب، وهو فرق لا وجه فيه للمقارنة بين الدول الثلاث، وهو يعكس بطبيعة الحال مدى التفوق الذي حققه الإنسان الإنكليزي على غيره، تفوق تمثل في الإنتاج من حيث الكم والنوع، وبلغ درجة عالية من الجودة والتنوع التجاري والصناعي، مما جعل المنتج الإنكليزي يستولي على الأسواق العالمية، ويستحوذ على الاهتمام والتفضيل لدى المستهلك. هذا لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة إتقان وإبداع، ولدته إرادة عازمة على النجاح والاستحواذ، أوقد هذه الإرادة عقل مفكر، عرف الطريق الأصوب والأنسب والأنجع إلى المنافسة وتحقيق المكانة الأسمى، وكان الفضل في تكوين هذا العقل المفكر المبدع الذي اهتدى إلى طريق النجاح، تعليم متمكن اعتمد فلسفة تربوية جمعت بين فضيلة العلم والعمل، علم نافع، وعمل صالح، وجاءت النتائج مبشرة بواقع ما زال يصنع النجاح والتفوق حتى الآن.
السر يكمن في التعليم، لكنه تعليم ليس كأي تعليم، لأن كل المجتمعات البشرية تعلم ناشيئتها، لكن قليلة هي الأمم التي أبدعت وصنعت النجاحات ولو في مجال واحد، فضلاً عن تحقيق النجاحات في كل المجالات والأصعدة والمستويات، ليس هذا فحسب، بل احتفظت وحافظت على الصورة البهية التي رسمتها في العقول ورسختها في الوجدانات، بسبب جودة منتجها ومتانته وقدرته على المنافسة.
إن مما يبعث على العجب، أن مدخلات التعليم وعملياته واحدة وواضحة في كل الثقافات، فهي ليست معقدة لدرجة تستعصي على الفهم والتطبيق، بل أمرها سهل متاح ممكن، وعلة التعليم ليست في مدخلاته ولا في عملياته، بل تكمن في القائمين عليه ومدى إيمانهم بتفعيله والجمع فيه بين العلم والعمل. ويصدق هذا ويؤكده قصة تروى عن أن أحد الأشخاص أبدى إعجابه بوجبة قرصان أكلها عند صديق له، ومن فرط إعجابه بالقرصان شكلاً ومضموناً، طلب من صديقه أن يرشده إلى نوع الحنطة ومن أين أشتراها؟ أعلمه الصديق بالاسم، ودله على المكان، اشترى الحنطة كما وصفها وحددها الصديق، طلب من زوجته أن تعمل له القرصان ظاناً أنه سوف يحظى بوجبة لذيذة كتلك التي أكلها عند صديقه، وكانت المفاجأة أن حظي بوجبة لم يقدر على استساغتها. ظن سوءاً بصديقه، فذهب إلى الصديق ليلومه ويوبخه على عدم صدقه معه، حيث اختلف ما أكل عنده عما صنعت زوجته اختلافاً جذرياً. رد الصديق، الحنطة التي وصفت لك هي نفسها التي أكلت منها عندي، لكن عليك أن تدرك أنني لم أعرك الأيدي التي عملت القرصان التي أكلت عندي.
المؤكد أن فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول التي تنافس الآن على الصدارة، استطاعت أن تشخص علتها وتعرف داءها، وأن تصنع بأيدي رجالاتها وعقولهم ما حقق لهم النجاح والتفوق.
لكن كثيرة هي الدول التي ما زالت تعاني من الأيدي والعقول التي تشبه أيدي زوجة الرجل التي لم تقدر على صناعة القرصان بصورة شهية لذيذة، لأنها امرأة رفلى، والرفلى لا يمكن أن تصنع نجاحاً أو تحقق تفوقاً.
ab.moa@hotmail.com