في كل بلد هناك ما يسمى بثقافة العمار، أي عمار المساكن. ونحن لسنا استثناء من ذلك. بل إننا نتفرد عن بقية الأمم في أن من تتوفر لديه القدرة يحاول أن يبني له ولأولاده، وأحيانا لأولاد أولاده أيضا بسبب عدم الاطمئنان على قدرتهم أن يبنوا لأنفسهم مساكن مستقبلا.
والمواطنون مقسومين بين قسطاطين: محظوظين قد تمكن أهلهم من بناء مساكن لهم، أو وقعوا في تركة مناسبة سهلت لهم شراء أو بناء منازل وهم في مقتبل العمر، وآخرين من غالبية المواطنين، 70% حسب إحصائيات حديثة، يمكن تسميته بالعاديين، ليس لديهم منازل. فأغلبية الذين يحصلون على رزقهم بطرق مباحة معتادة، لا يمكنهم مهما وفروا وقتّروا، أن يبنوا منازل من رواتبهم قبل مرحلة الكهولة.
الدولة جزاها الله خيرا تمنح المواطن منحة أرض، وتضيف لها قرضاً، ولكنها قد لا تكون قريبة من المعمور المستأنس من المدن، وبعيدة عن الخدمات الضرورية، بل إن الخدمات ربما لن تصلها إلا في الخطة الخمسينية القادمة. فالمنح متفاوتة حجماً، وثمنا، وموقعا. ولا أود الخوض في مثل هذا الأمر لأن المثل يقول «من تدخل فيما لا يعنيه لقي مالا يرضيه».
ولكن الكاتب وزملاءه في الجامعة، مثلا، قرروا أن «يكشتوا» قرب الرياض، فاختاروا مكاناً يبعد مسافة الجمع والقصر، وفي المساء لحق بهم زميل آخر، وصلهم وبادرهم قائلا، سأخذ منكم إيجاراً فأنتم جالسين في منحتي الجامعية، فضحك الزملاء ظنًا منه أنه يمازحهم، ولكنه ثبت بالفعل أنهم جالسين في منحته. ثم بدأ الجدل حول إمكانية وصول الخدمات لهذا المخطط في حقبة النفط أم بعدها.
ولذلك نصحه الجميع بأن يتخصص من الآن في الطاقة الشمسية تحسبا لحاجاته المستقبلية.
ومع سُعار قيم الأراضي، وموجة الغلاء، هناك مقولة شعبية قد يكون لها نصيب من الواقع، وهي أن العمار يقصّر الأعمار. حيث إن أكثر من نصف الناس لا يستطيع عمار منزل إلا في مرحلة تقوس منحنى العمر، حيث يكونون أكثر عرضة للسكر، والضغط، والقولون، وأحيانا الوسواس والهبال من أمور العمار. فالأفواه مشرعة، والأنياب مسنونة لنهب تحويشة العمر لمن تسول له نفسه العمار بنفسه من أناس غالبيتهم لا يعرف الأمانة طرفة عين. والذي يعمر منزلا لأول مرة هو كالطبيب الذي يتدرب قبل التخرج، فهو يمارس أمورا قد تكون خطيرة من تشريح، وتقطيع، وعمليات جراحية، والفرق بين الاثنين هو أن الذي يعمر يشّرح جسده، ويجري العمليات على أعضائه، فكل ما ينشق في هذا الجسد أو ينبعج لا يمكن ترقيعه لأنه، إذا كان إنسان يخاف الله في نفسه لن يعمر إلا منزلاً واحداً.
والمسكين إضافة لذلك، يقضي بقية عمره في الآثار الجانبية لعملياته التي أجراها الآخرون عليه بموافقته، وبتشجيع منه وعلى نفقته. فكل ما انقشعت بلاطة من البيت الجديد زاد ضغطه درجة، وكل ما هرّب سقف اجتاحه تسونامي من الهواجيس، وكلما سّرب التكييف وخرّب الجبس والدهان، أو هربت دورة المياه انتفخ قولونه، وهلم جرا حتى «تنفضخ» مرارته المتورمة أصلا. وبما أنه لا ينتهي من العمار إلا وقد قضت الحيوانات الضارية التي تسمى مقاولين على مدخراته، فلن يكون لديه ما يمكنه من العلاج خارج مستشفيات الوزارة، فتقضي المواعيد والطوابير على ما تبقى من عمره. فالعمار خير ابتلاء للمواطن، وأفضل اختبار لصبره.
سوق المقاولات والعمار لدينا بلا هوية ولا تعرف لمن تتبع: التخطيط؟ الصناعة؟ التجارة؟ الزراعة؟ وهي أيضا بلا أنظمة ولا تشريعات وحبلها على غاربها، وتدار من قبل مافيات وافدة كل مافيا منها تسيطر على قطاع. العظم له مافيات عربية وتركية، الخرسانة الجاهزة مافيات شمالية عربية، البلاط مافيات عربية جنوبية، اللياسة مافيا آسيوية، أما الحارس فلا تحلم أن تحصل على حارس بإقامة شرعية، وإن وجدته فسيلزق بالبناء أو المليص أسبوعاً واحداً ويتحول لمقاول ويهرب وتاركا باب عمارتك مفتوحاً.
وفئة المقاولين هذه تعمل وفق آلية شرعتها لنفسها وهي آلية التفويض، حيث يأتيك المقاول ببوك موقع ومختوم سلفا من الكفيل أو الكفيلة، حيث إن النساء لدينا، على فكره، قد دخلن مجال المقاولات قبل دخولهن مجال الملابس الداخلية بعقود. ووفقا لهذه الآلية يمنح الكفيل المكفول بوك عقود موقع ومختوم ويأخذ رسوم التوقيع مسبقا. وإذا كنت في الوسط فكفيل مقاولك سيكون في طريف، وإذا كنت في طريف فثق أن كفيل مقاولك سيكون حتما من وادي الدواسر، وهكذا دواليك. وإذا بحثت عن عنوان الكفيل فسيكون تلفون ثابت مقطوع الحرارة من تاريخ تختيم البوك وأخذ الجزية. أما المقاولين فهم منظمين تنظيم محكم، وكأنهم ميليشيا وليسوا مقاولين، فعندما يقررون رفع السعر لن تجد مقاول واحد حتى ولو في آخر المعمورة لم يصله الخبر. وهم يتابعون أسعار السوق أكثر من وزارة التجارة فإذا ارتفع الطماط ارتفع سعر البلوك، ومتر شغل اليد وحتى سعر الحراسة.
ولا ننسى هنا الجهود المشكورة للمقاولين الكبار، الذين لعبوا دور القنابل الفراغية التي فرغت السوق من العمالة، فهم لضعف الرقابة في استلام المشاريع التي ينفذونها بعشرات الألوف للمتر، أخذوا في منافسة المواطن على عمالة أي كلام، لأنه صار من المقبول أن تخر سقوف المباني الحكومية، أو تهرب دورات المياه فيها، أو تتعطل أفياش الكهرباء بعد أشهر من الاستلام، والمهم أن تكون الجداران تلمع، وأحد دورات المياه التي ستفقدها لجنة من يستلم المشروع على أفضل حال.
نحن البلد الوحيد في العالم الذي يأخذ فيها المقاول حقه مقدما، ولا يقدم ضمان جودة، مع أنه هذه الأيام انتشرت أنواع من الضمان لمدد خرافية: عشر سنوات، عشرين سنة الخ. يقدمها المقاول بكل طيبة خاطر لأنه يعرف أنه لن يلتزم بها، لأنك لن تجده لتلزمه بها، وإن وجدته فهو أول من يعرف أنه ليس هناك من جهة ما ستلزمه بها. فعندما تختلف مع مقاول لا تعرف أين تذهب لتقديم شكوى ضده إلا الشرع كما يقال، وهنا تفضل أن تنسى حقك على انتظار إجراءات محاكمة خصمك. وكثير من المقاولين مقر عمله سيارة ديهاتسو، أو ونيت نيسان، وسلم حديد ملطخ بالأسمنت، وأربعة عمال يتغيرون حسب الأجواء في التخصصي والبطحاء، وإن هرب فلن تجده حتى ولو بحث عنه بالأقمار الصناعية.
لا أعرف من هي الجهة المسئولة عن فوضى البناء في مجتمعنا، ولعل في الأمر خيرة، حتى لا أتهم بتقصدها لأن جميع المؤسسات الحكومية لدينا طورت مؤخرا أطقم محترفة مهمتها الطعن في أمانة كل من ينتقدها، ولذلك فسأتهم هذه الجهة «كائن من كانت» بالتقصير والإهمال. فلا أقل من أن تصدر عقودا موحدة، وتنظيمات وتعليمات محددة توفر صحة المواطن وجيبه، وتضمن له حقه. فكثيرا ما يطلب بعض المقاولين مقدم عمل ويختفي، أو في أحسن الأحوال يماطل. والحال اليوم أن كثيراً من العمالة أصبح بلغتهم «مدير»، بمعنى أنه يجمع عمالة من الشارع حسب المتوفر، ويأخذ مقاولة ومقدم عقد لأكبر عدد ممكن من المواقع ثم يدوّر العمالة عليهم بصرف النظر عن الوقت، وما يتفق عليه لأسبوع يمتد لشهرين وأكثر.
الجهة هذه لا أعرف هل طالها التغيير الوزاري الجديد أم ليس بعد، ولكني أود أن تنظر في إنشاء شركة، أو شركات مساهمة ضخمة من المواطنين وإليهم، مهمتها بناء مساكن للمستضعفين من خلقه، وأن تقدم الدولة كافة وسائل الدعم لها، من دعم مادي، ولوجستي، وعماله الخ. فكل ما يحوشه المواطن مسكين في حياته، بل وأكثر من ذلك قد تلحقه الديون، يذهب إما لشراء أرض أو بناء منزل، وهي تذهب مناصفة بين حيتان وهوامير يحتكرون كل شيء،، وعمالة أجنبية تخرج المليارات للخارج.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif