منذ أن انطلقت مسيرة مجلس التعاون الخليجي أحاطتها قيادة المملكة بحكمتها ووعيها وحرصها على توحيد الكلمة والانطلاق بالمجلس نحو آفاق التعاون الفعال الذي يراعي طبيعة هذه المنطقة وخصوصيتها التي تميزها منذ القدم، وقد تمكنت قيادتنا الرشيدة -بفضل الله- من رعاية هذه المسيرة بالتعاون مع أشقائها في الأسرة الخليجية وظل مجلس التعاون شامخاً في الطموح، محققاً للإنجازات، صامداً أمام التحديات التي واجهها، وانطلق التعاون في مجالات عديدة ليحقق لأبناء الخليج العربي المزيد من الإنجازات، وشهدت ميادين التعاون بينهم ما يفخرون به في الاقتصاد والسياسة والأمن والتعليم وفي الشؤون الاجتماعية والسياسية والصحية وغيرها، وسارت خطط التعاون المشترك بخطى مدروسة لم يعكر صفوها حقد الحاقدين ولم يضعف من واقع مسيرتها كيد الكائدين أو المتربصين.
وجاءت القمة الثانية والثلاثين هنا في الرياض، حاضرة العرب، وعاصمة السلام وحاضنة المجلس الذي اشتد عوده، وقوي بنيانه، جاءت قمة مجلس التعاون بعد أن قطع المجلس أشواطاً من مسيرته الموفقة التي فتحت أمامه آفاقاً أرحب من التعاون، ودروباً متجددة من الآمال، انعقدت هذه القمة التي رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الحريص على التعاون المستمر بين أبناء الأمة، المعروف بنهجه السديد في جمع الصف، وتوحيد الكلمة، وترجمة الطموح، فكانت له -يحفظه الله- أياديه البيضاء على مدى مسيرة المجلس وكانت له آراؤه السديدة المستشرفة للمستقبل، المعالجة للواقع، المتطلعة دائماً لحياة رغدة سعيدة لأبناء هذه المنطقة، فجاءت دعوته المباركة نحو انطلاقة جديدة للمجلس ليتجاوز «مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد يحقق الخير ويدفع الشر بعون الله».
لقد بنى يحفظه الله هذه الدعوة على نتائج استقراء واعية لحقائق التاريخ ومؤشرات الواقع ودلالاته، ذلك التاريخ الذي لا يرحم من يقصرون آمالهم عند حدود ما تحقق، وهذا الواقع الذي امتلأ بالتحديات الجسام، وتضاعفت فيه المسؤوليات على عاتق من ينشدون الأمن والاستقرار لأوطانهم وشعوبهم، في خضم الأحداث المتلاحقة والأخطار المتزايدة المحدقة بنا.
لقد لخص -يحفظه الله- رؤيته في الدعوة إلى الانطلاق لمرحلة الاتحاد في قوله الوجيز «لقد علمنا التاريخ وعلمتنا التجارب ألا نقف عند واقعنا ونقول اكتفينا، ومن يفعل ذلك سيجد نفسه في آخر القافلة ويواجه الضياع وحقيقة الضعف، وهذا أمر لا نقبله جميعاً لأوطاننا وأهلنا واستقرارنا وأمننا».
إن هذه الدعوة الواعية لخادم الحرمين الشريفين تأتي امتداداً طبيعياً للدور التاريخي الذي تقوم به المملكة منذ أسسها صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز يرحمه الله -فقد جمع حوله كلمة العرب واهتم بقضايا المسلمين، وتبنى أبناؤه البررة من بعده مسيرة التعاون العربي والتضامن الإسلامي، والعمل على توحيد كلمة هذه الأسرة الواحدة المتمثلة في الخليج العربي الذي جمعت بين أبنائه على مدى التاريخ عوامل مشتركة واحدة يحيطها الدين الإسلامي الواحد بسياجٍ من القوة الروحية والقيم الأخلاقية الراقية، وأضفت على هذه المنطقة عوامل التاريخ المشترك والمساحة المتصلة -التي لا تعرف الحواجز الطبيعية - قدرة على التواصل والتنقل بسهولة وحرية، جعلت أبناء هذه المنطقة أسرة واحدة على مر العصور والأزمان.
وقد حققت هذه المنطقة في ظل مجلس التعاون ما أكد على أنها أسرة واحدة لها خصائصها وسماتها المشتركة، وها هي اليوم تواجه من التحديات ما لا يخفى على أبنائها الكرام الذين يفرض عليهم الواقع مزيداً من التكاتف ومزيداً من التعاون المستمر البناء الذي يتحقق بصورة أفضل، وبشكل أرقى في اتحاد يحقق طموحاتهم ويؤكد تماسكهم ووحدتهم.
وهكذا تأتي دعوة خادم الحرمين الشريفين إلى تجاوز التعاون إلى مرحلة الاتحاد لتحقق وثبة ونقلة نوعية في مسيرة التعاون بين أبناء الخليج، ومنطلقة من رؤية ثاقبة وسياسة حكيمة لخادم الحرمين -يحفظه الله- الذي عود العرب والمسلمين بل والعالم أجمع على مثل هذه المبادرات التي يسجلها له التاريخ في صفحات الإنجاز المضيئة، ويوم أن يتحقق ذلك الاتحاد بين الأشقاء سيكون صرحاً قوياً ناجحاً يشار له بالبنان، ويكتب التاريخ في أول صفحاته أنه جاء ترجمة للفكر الواعي المخلص لخادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز.