نهج الغرب إستراتيجيتين خطيرتين تجاه العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة بدعوى (الحرب على الإرهاب). وبغض النظر عن تداعيات تلك الأحداث وأسبابها ومن كان يقف ورائها فإن ما يعنينا هو نتائجها. هاتان الإستراتيجيتان اتخذتا أسلوبين في تطبيقهما:
فترات معيّنة عبر التاريخ الإنساني، فلا يحرمهم من الانتماء إليه رحيلهم وترحالهم بحثاً عن مصادر العيش لهم ولكائناتهم، وهذا يفسِّر ما في الذهنية
الأول: الحرب العسكرية، التي استهدفت العراق والإطاحة بنظامه وإعادة ترتيبه وفقاً لأطماع ومصالح محددة سلفاً. اختارت الإستراتيجية العسكرية العراق كهدف رئيس لاعتبارات عسكرية وجغرافية وسياسية لقربها من إيران العدو وإسرائيل الصديق والحليف. وليس الموضوع هنا معني بالحديث عن الإستراتيجية العسكرية ومصالح الغرب في العراق على المدى القريب أو البعيد.
الثاني: الحرب الناعمة (السياسية والثقافية والإعلامية)، التي استهدفت المملكة العربية السعودية، ديناً ودولة وشعباً ومؤسسات. فبعض الحكومات الغربية تدرك مكانة المملكة في العالم الإسلامي، وأنه من الصعوبة بمكان النيل منها عسكرياً لما قد يجره ذلك من انتصار العالم الإسلامي كله لأراضيه المقدسة التي تحتضنها المملكة العربية السعودية، وأن أي مغامرة عسكرية غير محسوبة ولا تأخذ بهذا الاعتبار فإنها قد تبؤ بالفشل. لم يكن للغرب بد من أن يستغل الفرصة السانحة ويغير من إستراتيجيته العسكرية فيطلق حملته الناعمة ضد المملكة العربية السعودية التي تزامنت مع حربه العسكرية في العراق، في محاولة لتغيير ما يمكن تغييره من دينها وهويتها الثقافية، متخذاً من منابره السياسية والثقافية والإعلامية وسائل لأحداث التغيير المطلوب.
ولأنها (حرب ناعمة)، وشرسة في الوقت نفسه، فقد ركزت على أهم مكامن القوة المعنوية في المملكة العربية السعودية، وهو الإسلام، الذي تأسست عليه الدولة وتوحد عليه شعبها. تنوعت الكتابات الغربية في حديثها عن الدين الإسلامي وتأثيره في السعودية وخارجها، مستهدفة أسسه النظرية وتطبيقاته في المجتمع السعودي. وقد استأثر موضوع السلفية والوهابية بتركيز بعض الكتاب الغربيين واهتمامهم، في محاولة للتشويش على صفائهما في مخيلة الرأي العام النخبوي والشعبي في الغرب والعالم الإسلامي وفي السعوديين أنفسهم.
وقد حاولت كثير من الكتابات الغربية ربط هذين المفهومين بالتشدد والتطرف، تحقيقاً لأهداف الحرب الناعمة التي رامت إضعاف القوة المعنوية وتذويب الهوية الدينية والثقافية للمسلمين، وسعياً لإرساء ملامح (الشرق الأوسط الجديد) الذي رسمته وبشرت به حكومات الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
لقد ظلت الدعوة للتمسك بالمنهج الإسلامي القويم تواجه بالكثير من الصعاب والهجوم والنقد على مر العصور، وإن اختلفت الوسائل وتعددت الطرق والأساليب. ومافتئ الالتزام بمنهج السلف الصالح يجابه التحديات الجسام، وهي تحديات شابها لغط وجدل كبير. ولذا أضحت الحاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحرك واسع وعلى عدة جبهات للسعي لتبيان الإشكالات والشبهات الكثيرة التي ظلت تحيط بالسلفية والسلفيين في مخيلة الرأي العام الغربي، بنوعيه النخبوي والشعبي، وتتجاوز ذلك للنيل من الإسلام كدين ومنهج حياة.
وإذا ما أُريد لهذا التحرك أن يحقق النجاح فينبغي أن يتسم بقدر من المصداقية، ويبسط الأمر على طاولة الحوار بخطاب هادئ يتحدث إلى الآخر بهدوء وموضوعية ومناقشة علمية ومنطقية.
وكما يتضح من الواقع المعاش والتجارب السابقة فإن توضيح صورة السلفية وحقيقتها ومنهجها يصطدم بالكثير من العقبات، والتحديات التي تتطلب جهوداً متواصلة، إذ إن الشبهات حول مفهوم السلفية وحقيقتها باتت أكثر تعقيداً اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبخاصة بعد الثورات التي شهدها العالم العربي وتفاعل معها الغرب ووسائل إعلامه. فكثير من الشبهات باتت من المسلمات لدى الرأي العام الغربي، وكثير من الأقاويل والشكوك أصبحت يقيناً، تُروّج على نطاق واسع وبوسائل تمتلك أدوات متقدمة خّصصت لها الكثير من الإمكانات البشرية والمادية. ومع هذا ظلت الحجج التي تسوقها كثير من وسائل الإعلام، ومراكز الدراسات والبحوث في الغرب لتبرير هجومها على السلفية والإسلام في السعودية تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان تفتقر للبراهين والمنطق، وتعوزها الحقائق.
من واقع حوارات شخصية مباشرة مع إعلاميين وأكاديميين غربيين زاروا المملكة في السنوات القليلة الماضية، اتضح أنهم لا يملكون معلومات عن حقيقة ما يتناولونه ويكتبونه عن السلفية والإسلام والسعودية. وقد أقر كثيرون منهم بضعف معلوماتهم في هذا الجانب.
ولذا توجب على المؤسسات الثقافية والفكرية في هذه البلاد أن يتصدوا لمثل هذه الكتابات المغلوطة والمعلومات غير الواقعية عن السلفية وما أسموه (الوهابية) في المملكة العربية السعودية. ومن الجهود الفكرية في هذا المجال ما سيصدر قريباً عن (مركز الفكر العالمي عن السعودية) بعنوان (السعودية السلفية في الكتابات الغربية: رؤية تصحيحية)، إذ يستعرض عدداً من الكتابات الغربية التي تحدثت العلاقة بين السلفية والوهابية في المملكة العربية السعودية والربط الخاطئ الذي نشأ بينهما والمفاهيم المغلوطة عنهما في التراث العلمي في الغرب، ومناقشة ما له علاقة بمفهوم (الوهابية) ووصفها وتأثيرها داخل المملكة العربية السعودية وخارجها. يناقش الإصدار كذلك دعاوى علاقته السلفية بالعنف والتطرف والإرهاب التي نضحت بها كثير من الكتابات الغربية، ويحاول إزالة الغموض الذي علق ببعض الكتابات التي تناولت مفهومي السلفية والوهابية وعمدت، عن قصد في كثير منها وعن نقص وغموض للمعلومة في أحيان أخرى، إلى ربطها بصفات سيئة، وانتقصت من المملكة العربية السعودية التي رأت تلك الكتابات أنها الداعمة والحاضنة (للسلفية الوهابية) والمصدرة لهما.
كما تُعقد في رحاب جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية هذه الأيام ندوة بعنوان: (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) تهدف إلى توضيح المنهج السلفي الذي تأسست عليه دعائم المملكة العربية السعودية، ونأمل أن يُستخلص من أوراق العمل المقدمة ما يناسب القارئ الغربي ثم يترجم ويوزع على نطاق واسع، إذ إننا بحاجة إلى أن نتحدث إلى غيرنا أكثر من حديثنا لأنفسنا. ذلك أننا نواجه إشكالية كبيرة عند التعامل مع الآخر الغربي. فهذا الآخر قد أيقن يقيناً لا يخالجه شك في سلامة ما يراه عن الإسلام والمسلمين، فهو قد تربى في بيئة شكّلت فيها وسائل الإعلام ومراكز الدراسات والبحوث الصورة النمطية التي ظلّت تسيطر على الذهنية الغربية، وأصبح ما تنقله هذه الوسائل وما تنشره هذه المراكز مرجعية يعتمد عليها الغربيون وغيرهم، وحتى بعض المسلمين، عند حديثهم عن القضايا المتعلقة بالإسلام والمملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة المؤلمة فإنه من الضروري - للأمانة والموضوعية - تقرير حقيقة أن من الكتاب الغربيين من اجتهد وأخطأ بحسن نية في مفهوم (الوهابية) ووصفها وتأثيرها في المملكة العربية السعودية وخارجها، مع التزامه بأمانة البحث العلمي، ونزاهة النقل من المصادر المختلفة، فجاءت كتاباتهم منصفة ومتحرية للحقيقة التي يبحث عنها العقلاء حتى وإن حادت عن الصواب في بعض جوانبها.
أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام محمد بن سعود، رئيس مركز الفكر العالمي عن السعودية
prof.msb@hotmail.com