قراءة - حسن الشقطي
بفائض قدره 306 مليارات ريال أنهت ميزانية المملكة عام 2011م .. فرغم أن هذا العام كان مليئا بالمفاجآت السياسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية، فإنه قد فاجأ العالم كله أيضا بتحقيق المملكة لأضخم ميزانية في تاريخها الاقتصادي بأعلى قيمة للإيرادات بلغت 1110 مليارات ريال، وأعلى مصروفات محلية بقيمة 804 مليارات ريال .. فقد تفوق هذا العام على آخر عام كان يحسب على أنه الأعلى في تاريخ ميزانيات المملكة، وهو عام 2008م حيث الطفرة الكبيرة في أسعار النفط.. إلا أن هذا العام تفوق بنحو 10 مليارات ريال عن عام 2008م ولتسجل الإيرادات سقفها الأعلى.. وإذا كانت الإيرادات المحققة متوقعة في ضوء ارتفاع متوسط أسعار النفط بقيمة 40% تقريباً عن مستوياتها في العام الماضي، فإن المفاجأة تمثلت في تحقيق المصروفات الحكومية الفعلية لقيمة 804 مليارات ريال.. فرغم أن الجميع يعلم أن القرارات الملكية الصادرة في بداية هذا العام لعبت دوراً في رفع قيمة هذه المصروفات عن الحد المقدر لها في موازنة عام 2011م والتي كانت تقدر بنحو 580 مليار ريال، إلا أن كافة التوقعات كانت تتوقع أن زيادة الإنفاق الحكومي لن تتجاوز حدود 200 -250 مليار ريال، إلا أن هذه الزيادة بلغت نحو 306 مليارات ريال.
ناتج عام 2011م .. حصاد إيجابي في عام الاضطرابات الإقليمية:
رغم التحديات التي واجهها الاقتصاد الوطني مثله مثل بقية الاقتصاديات الأخرى في ضوء حالة الركود والانكماش بدافع جمود الحركة الاقتصادية بالمنطقة العربية، وأيضاً بدافع أزمات مديونيات الاتحاد الأوربي والاقتصاد الأمريكي، فقد تمكن الناتج المحلي الإجمالي السعودي من تخطي حاجز الاثنين تريليون ريال (وصل إلى 2163 مليار ريال)، ليخترق مرحلة الدول الأسرع نمواً بمعدل نمو 28% عن العام السابق.. والملفت للنظر أن كافة مكونات الناتج قد حققت نمواً إيجابياً، حيث وصل النمو الحقيقي في الصناعات التحويلية 15%، وفي نشاط الاتصالات والنقل 10.1%، والتشييد والبناء نسبة 11.6%، ونشاط التجارة 6.4%، وخدمات المال والتأمين 2.7%.
الهوية الصناعية الجديدة في عام 2011م
ومن السمات المميزة لعام 2011م نمو القطاع الصناعي التحويلي بنسبة 15 %، ليحقق أعلى نسبة نمو للقطاعات الإنتاجية، وأعلى مساهمة في الناتج، وذلك رغم ركود المنطقة العربية ككل.. وقد برزت هذه الهوية الصناعية بشكل واضح في ارتفاع ونمو الصادرات السلعية غير البترولية والتي وصلت إلى 153 مليار ريال بنسبة نمو 14 % .. إننا في حاجة ماسة لتحليل هذه الصناعات التي ساهمت في هذا النمو الملحوظ للتعرف على طبيعة التصنيع السعودي بهويته الجديدة.. ولعل مزيداً من الدعم والتشجيع ينالها.. والبعض يتوقع أن تكون الصناعات البتروكيماوية قد ساهمت بجزء هام من هذا النمو بالتصنيع التحويلي، ولكن حتى وإن كانت البتروكيماويات هي التي تقف وراء هذا النمو الصناعي، فهي تستحق كل تقدير، لأنها في النهاية تمثل قيمة مضافة جديدة، أفضل كثيراً من تصدير هذه القيمة كخامات نفطية.
استمرار النهج المحتفظ في تقديرات الإيرادات النفطية في عام 2011
الآن سعر برميل النفط يدور حول مستوى 108 دولارات للبرميل.. وتسير كافة التوقعات الدولية في طريق توقع استمرار هذه المستويات في عام 2012م .. رغم كل ذلك، فإن موازنة العام الجديد (2012م) قدرت الإيرادات الحكومية بحوالي 702 مليار ريال، وهو مستوى يقل كثيراً عن مستوى الإيرادات الفعلية المتحققة في عام 2011م (1110 مليار ريال).. فلو افترضنا استمرار متوسط سعر النفط عن نفس مستوياته في عام 2011م، لتوقعنا بسهولة أن الإيرادات الفعلية لعام 2012م لن تقل عن 1000 مليار ريال.. لذلك، فإن عام 2012م يمثل استمراراً للنهج المتحفظ لتقديرات الموازنة الحكومية.
موازنة عام 2012م استمرار النهج التوسعي ولكن بلا سقف للمصروفات
في ضوء الاستقرار النسبي لمعدل التضخم في عام 2011م، فإن موازنة عام 2012م تتبنى نهجاً توسعياً جديداً وواضحاً بإنفاق مقدر بنحو 690 مليار ريال، وهذا الإنفاق المقدر رغم أنه يقل عن الإنفاق الفعلي الحادث في العام المنتهي 2011م، إلا أنه يعتبر المستوى الأعلى الذي يتم رصده للمصروفات الحكومية.. والتي في الاعتقاد أنها بدأت تتحرك بلا سقف واضح بدءاً من عام 2011م.. بمعنى أن مفهوم تقييد المصروفات عند سقف معين لم يعد معمولاً به نظراً للتطورات والمستجدات المتسارعة التي بدأت تطرأ على البيئة المحلية.
موازنة عام 2012م بين التضخم والركود
جميع الراصدين للسوق المحلي يدركون أن هناك قدراً من التضخم يتزايد في قطاعات وأنشطة معينة، على رأسها المواد الغذائية والعقار والسكن، وجزء من هذا التضخم هو تضخم مستورد في ظل استيراد قيمة هامة من السلع الغذائية من الخارج.. إلا أن الجميع يدرك أيضاً أن هناك حالة من الركود الاقتصادي المستورد في رحايا الأزمات الاقتصادية المتتالية عالمياً.. وعليه فإن السياسة الاقتصادية السعودية باتت تسعى لتفضيل علاج الركود المستورد على التضخم (سواء المحلي أو المستورد).. علاج الركود بالتوسع يمثل سياسة مفضلة في مثل هذه الحالات، لأن التوسع الحادث هنا كفيل بقيادة حركة النشاط المحلي، التي تولد سيولة جديدة أو أعلى من المتاحة في أيدي الأفراد وتوجد فرص عمل أكبر.. فإيجاد الدخل وفرصة العمل لك أهم كثيراً من تمكينك من إنفاق قدر أقل والحصول على قدر أكبر من المنفعة.. فما هي قيمة ضبط التضخم إذا لم يوجد الدخل؟
السياسة التوسعية المزدوجة وتخصيص جزء أكبر للإسكان
من يراجع موازنة العام السابق يلحظ أنه تم تحويل 58 مليار ريال لسداد جزء من الدين العام، في حين أنه خلال عام 2011م تم سداد حوالي 31.5 مليار ريال فقط من هذا الدين.. في المقابل تم تحويل الجزء الأكبر من فائض الميزانية (250 ملياراً ريال) لصالح بناء 500 ألف وحدة سكنية.. وهذا التحويل في حد ذاته شكل من أشكال الإنفاق المركز، والذي سيمثل توسعاً مزدوجاً.. فالميزانية رصدت 690 ملياراً ريال مصروفات، في حين أنه تم تحويل 250 ملياراً من الفائض لحل مشكلة الإسكان ورغم أن هذا القرار صدر من قبل، إلا أن تنفيذه يأتي في عام 2012م .. وفي اعتقادي أن هذه الـ 250 مليار ريال ستلعب دوراً محورياً في تحريك العديد من القطاعات الخاصة، وعلى رأسها البناء والتشييد والمقاولات والصناعات بكافة أشكالها.. وبالتالي فإن النهج التوسعي في موازنة عام 2012م يفوق نظيره بكثير في موازنة عام 2011م.. ونتاج التوسع في هذه الموازنة سيتوقف على حدود إنجاز وزارة الإسكان من هذه المشاريع الجديدة.