نترقب الميزانية العامة للدولة في كل عام، ونتباشر عندما يكون الفائض أكبر، ونستعرض المشاريع ونبتهل لله أن يحفظ بلادنا وييسر لها طريق التنمية حتى تكون في خير حال ويكون السعودي بما يحقق من رقي وحضارة جسر عبور الأمة العربية للمستقبل المشرق الذي يعيد دورها السابق في بناء الحضارة الإنسانية، في هذه السنة وأنا أتابع الإعلان عن الميزانية انتابني شعور غريب، هو مزيج من الغبطة والقلق، غبطة بما تحقق من إيرادات وفوائض وبرامج ومصروفات وقلق من أن تكون سعادتنا بهذا الحظ سعادة عابرة، فقد باتت بلادنا عظيمة الموارد عظيمة التكلفة، كثيرة التحديات، فهل نحن جاهزون وقادرون على استدامة هذه الحال، أو على الأقل الحفاظ على حد مقبول من النمو، دون أن نكون كالطير الذي طار وارتفع دون أن يدرك أن لكل ارتفاع حقائق واقعية تفرض قدرات مختلفة.
عندما يكون إيراد الدولة يعتمد على موارد يمثل أحدها 93% من مجمل الإيرادات فذلك حري بالقلق، وخصوصاً أن هذا المورد محفوف بمخاطر عدة، فتقلبات الأسعار يمرجحها متغيرات عدة، سياسية واقتصادية وتقنية لا نملك زمامها، فنحن والحال هذه في مركب جميل فخم تلاطمه امواج بحر أطم، وفوق ذلك تحديات الإنتاج والتطوير والقدرة على التصدير وما يدور من جدال حول قدرة المخزون وحجمه على الوفاء بمطموحاتنا والتزاماتنا، هذا من جانب ومن جانب آخر نجد أن إدارة الدولة بمرافقها وخدماتها تزداد تكلفتها عاماً بعد عام وهذا يمثل ضغط مستمر لإيجاد موارد جديدة لتغذية ميزانية الدولة، ومع الجهود التي تبذل، إلا أنها لا تنمو بالقدر الذي نأمل، فلا زال تركيزنا منصب على تطوير الموارد الإستخراجية كالبترول والغاز والتعدين، ومع النجاح الذي تحققه شركات التحويل البتروكيماوية، إلا أن الصناعة والتي بات واضحاً أنها خيارنا الإستراتيجي الأفضل للثلاثين سنة القادمة، لازالت تواجه عقبات تنموية وتطويرية وتمويلية، ولن يكون بالإمكان الاعتماد عليها في توفير مصدر لتمويل موارد الدولة وكثير منها يعاني صعوبات إدارية وتسويقية، فمبجرد أن تسن الدولة رسوماً أو ضرائب على تلك الصناعات ستنهار تحت ضغط التحديات.
يساق من حين لحين أن المجتمع السعودي بات مجتمعًا ريعيًا استهلاكيًا أكثر من كونه منتج للخدمات والسلع، وهذا بحد ذاته يمثل تحديًا متناميًا للدولة والتي ستستمر المغذي الأكبر وبصورة سائدة للحفاظ على مستوى معيشة كريم يؤمن التعليم والرعاية الــــصــحية والــتغــذية السليمة والسكن المريح، هذا التحدي يمثله خير تمثيل النمو المتعاظم في استهلاك الطاقة وهدرها، فالتقديرات التخمينية التي بنيت على نمو استهلاك الطاقة المتزايد ونمو السكان المطرد تقول إن المملكة ستستهلك كل إنتاجها من النفط بحلول عام 2038م إذا لم تعدل في تركيبة موارد الطاقة واستهلاكها، كما أن المنجزات الرأسمالية والتي تبنيها الدولة من طرق وجسور ومبانٍ وسكك حديد وبنى تحتية تحتاج لصيانة مستمرة لتحقيق استدامة منفعتها وهذا بحد ذاته يمثل تكاليف متعاظمة ستثقل كاهل الدولة دون مساهمة فعالة من المجتمع.
إن النمو في ميزانية الدولة بقدر ما يسعدني فهو يقلقني ويجب أن يقلق كل مواطن محب لبلده ومواطنيه، فلابد أن نزرع هذا القلق في نفوس كل المواطنين وفي نفوس كل الأطفال في صورة حماس لتغيير واقع حالنا، فكل يجب عليه أن يبذل الجهد في أن ينتج بقدر ما يستهلك على الأقل، أو أن يقتصد في الاستهلاك، ويجب أن ننظر لمنجزات الوطن بعين الرعاية والحماية فلا نتعدى على المال العام ولا نخرب أو نكسر أو نشوه تلك المنجزات، هذا دور المواطن بصورة عامة وبصورة خاصة هناك دور لكل ذي قدرة مالية أو فنية أو فكرية لتكوين قيمة مضافة لنشاطاته بحيث تمثل مجتمعة زيادة في القدرة الإنتاجية للمجتمع، وليكن نبراسنا في ذلك دول كان لها التجربة وحققت النجاح مثل كوريا الجنوبية والتي كانت في عام 1956م دولة خارجة من حرب طاحنة تعيش على المساعدات ويمثل المزارعون البؤساء 85% من شعبها، وهي اليوم على مشارف نادي العشرين.
نعم هناك واجب على الدولة أن تقوم به كالتخطيط السليم ووضع القوانين والتسهيلات، ولكن الدور الأكبر هو للمواطن الذي عليه أن ينقلب على نفسه ليكون شخصاً منتجاً، فحين ثار عرب على قياداتهم لأنها كانت تحد من تحسين حالهم، ليس لدينا ما نثور عليه سوى حالة التراخي والتواكل والاتكال والاستهلاك والإهدار في الطاقة والمكتسبات، فلتكن ثورتنا على الذات.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail