ما من أرض إلاّ ولها شعبها، وما من تراب إلاّ وله كائناته الحية التي تكيفت فيه مع بيئتها عبر السنين، فلا يوجد شبر واحد على ظهر هذا الكوكب فارغاً من ناسه حتى وإنْ كانوا يقطنونه فترات معيّنة عبر التاريخ الإنساني،
فلا يحرمهم من الانتماء إليه رحيلهم وترحالهم بحثاً عن مصادر العيش لهم ولكائناتهم، وهذا يفسِّر ما في الذهنية العربية من مصطلحات الحمى وأماكن الرعي والحدود التي كانت دائماً سبباً لقتال بين المجموعات البشرية المتجاورة، ولذلك يعجب المرء العاقل من ادعاء البعض أنّا وجدنا هذه الأرض خالية فوضعنا يدنا عليها، ولا نحتاج إلاّ لحجة استحكام وبعض من شهداء الزور وقاض لا يرقب في مؤمن إلاّ ولاذمة لإصدار صك ملكيتها، في صورة نمطية تؤكد وجهاً آخر من وجوه الاحتلال، ولو كان بوصاية الأخ على أخيه والقبيلة على الأخرى والمدينة على ضواحيها والدولة على جاراتها، مادام القاسم المشترك هو الاختطاف والتدخُّل والوصاية والحرمان والإقصاء والتهميش والضرب على وتر الهوية والانتماء، ليتحوّل المواطنون الأصليون إلى غرباء في أرضهم ويتربّع الطارئون على مفاصل الحياة العامة، ويصدرون فرامانات الإعدام المعنوية ويحاربونهم في كل ما هو مباح وغير مستباح. صدقاً هناك ملفات محلية وإقليمية وعالمية يجب أن تفتح بيد عقلاء السلم والسلام، وتُعالج بالنظر إلى مصلحة هذا العالم العامة، دون طغيان مصلحة خاصة لشخص أو مدينة أو إقليم أو جهة على أخرى، ودونما النظر إلى لجان تقصِّي الحقائق وكتّاب التقارير ومهندسي التصريحات الكارثية..
حينما سمعت تصريحات السيد نيوت غنغريتش المرشح للرئاسة الأمريكية القادمة، وكانت عبارته غير التاريخية «إنّ الفلسطينيين شعب من الإرهابيين تم اختراعه ينتمي إلى المجموعة العربية»، تذكّرت بيتين لبنت النعمان بن بشير الأنصاري، تروى في مختصر تاريخ دمشق ومعجم الأدباء على خلاف في أسمائها، وكان الحارث بن خالد قد خطبها في مقدمه على عبد الملك بن مروان في دمشق فقالت:
نكحت المديني إذ جاءني
فيا لك من نكحةٍ غاليهْ
كهول دمشق وشبانها
أحب إلي من الجالية
ونسيت تلك الشاعرة حينما حكمت على حفيد خالد بن الوليد بأنه من الجالية وهو من أهل مكة، أنّ أباها النعمان بن بشير أيضاً كان من جالية المدينة المنورة التي قدمت على الخليفة عبد الملك بن مروان الذي قدم إلى دمشق منذ عشرين سنة تقريباً، في صورة تشبه إلى حد ما قصة الهنود الحمر وأجداد نيوت غنغريتش البيض المحتلين القادمين من أوروبا..
يا سيد نيوت .. فلسطين أرض الحضارات وقد شهدت مطلع الألف الثالث قبل الميلاد تمازجاً بشرياً وحضارياً بين قبائل وشعوب نزحت عن شبه الجزيرة العربية، وكان أبرزها اليبوسيين والكنعانيين وامتزجا في شعب كنعان الذي ينتسب إليه عرب فلسطين. وتوجد أسماء 119 مدينة كنعانية على أعمدة الكرنك. وأطلق عليها في التوراة «أرض كنعان»، ثم تصارعوا مع العبرانيين الذين هاجروا إلى فلسطين حوالي 1200 قبل الميلاد.
ويؤكد هذا أنّ العهدة العمرية بين سيدنا عمر بن الخطاب مع نصارى بيت المقدس نصّت على ما يلي: «لا يسكن إيلياء معهم أحد من اليهود»، ولما أوفد هرتزل صديقه ماكس نوردو بعد مؤتمرهم الشهير وجدها عامرة بشعبها العربي فأرسل له «العروس جميلة لكنها متزوجة» فرفع الصهاينة شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
والحقيقة التي تؤكد هذا الزعم ما جاء في مقدمة كتاب «اختراع الشعب اليهودي» للمؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند،: «لا أعتقد أنه كان في أي زمن مضى شعب يهودي واحد.. فاليهودية، مثل المسيحية والإسلام، كانت على الدوام حضارة دينية مهمة، وليس ثقافة شعبية قومية. ومثلما نعلم جميعاً لا وطن للإيمان. وخلافاً لذلك فالشعوب ينبغي أن يكون لها وطن، لذلك اضطرت الصهيونية إلى تأميم الديانة اليهودية، وتحويل تاريخ الجماعات اليهودية إلى سيرة شعب..
يا سيد نيوت.. تظاهر قبل سنة تقريباً في بكين صينيون مطالبين بأرض ضمّتها اليابان قبل ستة قرون ونيف، وكل طقوسهم تشهد على أنهم احتفظوا بنشيدهم القديم المستعصي على الطمس وتصنيفات الأطلال ومقتنيات المتاحف، مثلما احتفظ العرب بمفاتيح بيوتهم التي خرجوا منها على أن يعودوا، ومثلما بقيت في أطراف كفوفهم رائحة البرتقال الحزين والزيتون الذي لا يستعصي على الموت مهما غيّرت إسرائيل أسماء المدن العربية يافا وحيفا والقدس واللد إلى عبرية فيها، لأنّ الشعوب لا يصيبها الزهايمر في ذاكرتها الجمعية ووجدانها الأممي مهما طال العهد ومهما كانت الطريقة ممنهجة في تهميش جهاتها وإقصاء شخصياتها، وما إن تجد فرصة للخروج من القمقم، فستخرج لتتنفّس الحرية المحرومة منها ولو كانت على يد الشياطين، مادامت أنها لم تجد نفسها طيلة عقود جزءاً إيجابياً في منظومات وطنية لا تفرّق بين أفرادها مهما كانت أخطاؤهم وعيوبهم.
يا سيد نيوت.. الشعوب لها أساليبها العبقرية في الحفاظ على موروثها وفولكلورها، لأنّ السردية الوطنية فيها أكبر من زي شعبي ونشيد غير مفهوم ورقصة كلاسيكية، وبخاصة إذا كانت منظومات القيم والأخلاق هي القاسم المشترك بينها لأنها تحن إليها في كل موقف غير نبيل وتستحضرها كمجموعات مغلوب على أمرها، والكارثة حينما تحكم في عصور النهضة وحقوق الإنسان والديمقراطية ونهاية تاريخ الحضارات دولة متمدنة أو هيئة حكومية نزيهة أو منظومة عالمية إنسانية أو وزارة داخلية أو خارجية ما على مجموعات بشرية كاملة بأنها مخترعة، بعد أن احتلتها ووضعت حدودها من ورائها ثم تعاقبها بغير موضوعية اختزالاً لمواقفها من رحم التاريخ، وتفسيراً لعبارات (الأرض مقابل السلام والنفط مقابل الغذاء) بمزاجية وانتقائية وتحاكمها في محاكم إدانة مسبقة الدفع، فهي لم تدرك أنه ليس بالسلام وحده تكون الحياة وليس بالخبز المجرّد من الكرامة يكون العيش، وبخاصة في عصور حقوق الإنسان التي تعاقب بالإنسان بما يحمله من جينات أجداده القدماء ومواقفهم التي لم يستشيروه فيها في صورة تتناقض تماماً مع ما كانت عليه السوفسطائية اليونانية القديمة في العصور الجليدية والأوردوفيشية، حينما كانت البشر تغطي عوراتها بأوراق الشجر ولا تعرف إلاّ الغزو والقتل والسطو وكانت تؤمن بعبارة واحدة هي أنّ الفرد مقياس كل شيء، الخير والشر، والجمال والقبح، والصواب والخطأ.
يا سيد نيوت.. الشعوب لا يمكن اختراعها، إنْ لم تكن موجودة أصلاً، ولا يمكن طمس الحقائق والوثائق والموروث الشعبي الذي يروي أنّ مؤرخاً يهودياً قال إنّ اليهود تداولوا نكتة قبل اغتصابهم فلسطين وإنشاء الدولة، إذ قال يَهُودي لآخر بأنه قرر الهجرة إلى الولايات المتحدة، فقال صاحبه إنها بعيدة، عندئذٍ تلقى سؤالاً أيها اليهودي بَعيدةٌ عن ماذا مادام ليس هناك مكان تقاس المسافات بالنسبة إليه وكان يقصد تراب الوطن، والكارثة أنّ هذا التراب يعني الكثير للعربي المسلوب من الانتماء إليه، بدليل أنّ القوانين الإلهية عاقبته بالنفي أو التغريب عنه جزاء ذنبه، ومنحته ميزة الشهادة لمن مات دفاعاً عنه وعدت قتال المغتصب والمحتل والمعتدي عليه جهاداً في سبيل الله، ولا أصدق على ذلك من قول الشاعر الطائي المقهور حينما غلبه قوم على أرضه وبئره، قال:
وقالوا قد جننت فقلت كلا
وربي ما جننت ولا انتشيت
ولكني ظلمت فكدت أبكي
من الظلم المبين أو بكيت
فإنّ الماء ماء أبي وجدي
وبئري ذو حفرت وذو طويت
abnthani@hotmail.com