من يتابع المشهد على أرض سوريا مدنها ومحافظاتها وقراها وحال أشقائنا في ذلك البلد يتقطع نياط قلبه آلاما وحسرة على ما لحق بإخواننا هناك من قتل وتعذيب وتشريد وتهجير،
وعلى يد من؟ على يد القوات السورية (الباسلة) في ردع مواطنيها وليس في تحرير شبر واحد من الجولان، حول ذلك الجيش بلاده إلى ركام، وصراخ بعض الأسر على قتلاها يشق عنان السماء، والجوع والفاقة والمرض والحالة المزرية التي عانى ويعاني منها الشعب السوري وتبثه وسائل الإعلام محزن إلى حد البكاء، ومن يشنون الحرب الضروس على شعبهم يغرقون في النعم ويرتدون أحدث ما تقدمه الماركات العالمية.
بالأمس كان حافظ الأسد قد أحرق حماة وقتل من أهل تلك المدينة الصامدة أكثر من عشرين ألفا، كان ذلك في عام 1981، وقتها لم يكن الإعلام في ثورته التي نعرفها اليوم، ولذلك ابتلع العالم العربي الأمر الخطير، وكأنه (لا من رأى ولا من سمع) فمرت تلك الجريمة البشعة مرور الكرام، ولم يسأل حافظ الأسد وقتها فمنظمات حقوق الإنسان آنذاك هي الأخرى مغيبة، فخرج الأسد على شعبه منتصرا (نعامة) منحني الرأس أمام إسرائيل!!
جاء ابن الأسد (بشار) ليبشر إسرائيل بدوام الحال وعزة الجوار، فإن كان أبوه لم يطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان منذ 1967، فإن نجله، رفع الراية البيضاء لإسرائيل مكتفياً بإطلاق على نفسه لقب (قوة الممانعة) وهذا لقب يكفي لتحرير الجولان، كما كان يقول القذافي بأنه ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب، فبشار دفع بقواته من دبابات وطائرات وسفن بحرية ليضرب شعبه لأنه طالب بإصلاحات سياسية، فالدبابات والجنود غطت شوارع وحارات المدن السورية، وطائرات الهليكوبتر تحوم هنا وهناك تدعم قوات بشار لتضرب السوريين الذين فر بعضهم إلى الأراضي التركية وآخرين إلى لبنان!!
العرب من خلال جامعتهم التي تأسست عام 1945، ومن خلال اجتماعاتهم في القاهرة أصدروا قرارا (شهيرا) رقمه (7442) يفرض عقوبات اقتصادية مشددة ضد النظام السوري في مقدمتها منع سفركبار المسئولين السوريين وتجميد أرصدتهم إضافة إلى وقف التعامل مع البنك المركزي السوري وتجميد التبادلات التجارية الحكومية، ووقف رحلات الطيران من والى سوريا، وهذه العقوبات أقرت دول الاتحاد الأوربي عقوبات أشد منها في مقدمتها حظر استيراد النفط السوري، إضافة إلى حظر تصدير السلاح لدولة يقتل جيشها شعبه بأمر من رئيسها.
وإذا كانت الجامعة العربية قد قدمت (للأسد) مخرجاً مشرفاً من خلال مبادرتها لحقن دماء الشعب السوري، فإن الرجل ماض في غيه وتعنته وتشبثه بالسلطة حتى وإن قضى على الشعب السوري فقد أثبت براعته في المماطلة والتسويف سعيا لكسب المزيد من الزمن ليزيد من فتكه بشعبه أملا في قمع الثورة العارمة نهائياً ويبقى متربعاً على عرش السلطة على دماء السوريين الهادرة في الشوارع، والمدن السورية التي ستسجل لأهل الشام بطولتهم وشجاعتهم للتصدي في صدورهم العارية لظالم أجرم أيما إجرام في حق شعب مسالم ينشد الحرية والعدالة، وسيسجل التاريخ لهذا الشعب نضاله البطولي، وسيسجل للأسد الخزي والعار.
السؤال المطروح لماذا قام الشعب السوري بمقاومته ومظاهراته على مدى شهور عدة ضد نظام الأسد؟ الجواب لهذا التساؤل ان بشار بطش بكل من يطالب بالإصلاح وفتك بكل من أراد تبصيره بالحقيقة، وظلم شعبه ظلما بواحاً ونشر الفساد وامتلأت سجونه بالأخيار ورفع من مكانة المفسدين من أقربائه، فتحول إلى دكتاتور لا يسمع إلا صوت نفسه فبالغ بالظلم وعدم إقامة العدل والمساواة فوصل الأمر بالشعب إلى مرحلة لا يمكن تحملها فحدث الانفجار الذي طالب ويطالب الأسد وأعوانه بالرحيل!!
مبادرة الجامعة هدفها الأساسي حماية الشعب السوري من حكومته، وإبعاد الأزمة السورية عن (التدويل) لكن الأسد خادع وراوغ، أملا منه في الحل العسكري ضد شعبه، وردد النظام السوري انه راغب في التوقيع على المبادرة شريطة إلغاء جميع العقوبات الصادرة ضده، وهو لم يطالب بهذا إلا لأنه ظن ان الجامعة ستتراخى عن المضي قدما في تطبيق بنود المبادرة، التي تؤكد على قبول دمشق للمراقبين العرب على الأرض السورية لحماية هذا الشعب (الأبي) وسحب الجيش من المدن السورية.
المحصلة أن النظام السوري أخذ يدور حول المبادرة وبدلا من التقدم خطوة واحدة للأمام للتوقيع عليها فإنه تأخر ألف خطوة الى الوراء للالتفاف حولها لتحقيق مكاسب سياسية، الأمر الذي استدعى معه أن تقوم الجامعة بدورها أمام تعنت دمشق وعدم قبولها بتلك المبادرة الساعية إلى تجنب سوريا والعرب أزمة جديدة على ترابه ووجهت لنظام دمشق التحذير تلو التحذير من خطورة الأمر إذا لم يتم التوقيع على بروتوكول المبادرة، التي في مقدمة نصوصها، المراقبة والرصد لجميع أعمال العنف من أي مصدر، الإفراج عن المعتقلين، سحب المظاهر المسلحة من المدن والأماكن السكنية التي شهدت أو تشهد مظاهرات وحركات احتجاج، منح الإعلام العربي والدولي حرية التنقل في جميع أنحاء سوريا، ومن حق بعثة الجامعة زيارة مخيمات اللاجئين والسجون والمعتقلات، وحرية التحرك الآمن .. الخ.
وبعد أن حددت الجامعة الأربعاء الماضي لاجتماع وزرائها، وشعر الأسد بخطورة الأمر بعث بمندوبه للتوقيع على المبادرة، وفور التوقيع أعلن وليد المعلم وزير الخارجية السوري باستعلاء أن الجامعة العربية وافقت على التعديلات السورية ولذا وافقت بلاده على قبول المبادرة والمراقبين العرب، ولأن دول مجلس التعاون الخليجي تبنت مبادرة الجامعة العربية فإن قمة مجلس التعاون الخليجي التي انعقدت في العاصمة الرياض الاثنين والثلاثاء الماضيين برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أشادت بالمبادرة العربية وطالبت الحكومة السورية لتطبيق كافة بنود المبادرة وتنفيذ البروتوكول الخاص بمهمة بعثة مراقبي الجامعة الموقع بين الحكومة السورية والجامعة، كما طالبت حكومة دمشق بالوقف الفوري لآلة القتل ووضع حد لإراقة الدماء وإزالة أي مظاهر مسلحة والإفراج عن المعتقلين كخطوة أولى للبدء في تطبيق البروتوكول.
ومع كل هذه التطورات وجهود دول مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية فإن العارفين بتاريخ النظام السوري وتعسفه وتعنته ونظام حكمه السلطوي يدرك أن ما يبدو في الأفق أن أزمة سوريا في نهاية الأمر (ستدول) وسيقول مجلس الأمن كلمته يوما خاصة إذا دعم العرب هذا التوجه رغم معارضة روسيا والصين، وبهذا يكون العرب قد طبقوا ميثاق جامعتهم والقانون الدولي والعرف والشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
المهم أن العرب والجامعة العربية يجب ألا يذهب بهم التفاؤل بعيدا رغم قبول دمشق مبادرتهم ليعتقدوا بأن النظام السوري سينصاع لتطبيق المبادرة نصا وروحا، لأن هذا لم ولن يحدث في ظل نظام ديكتاتوري شمولي سلب شعبه حقوقه وحريته وضرب المظاهرات السلمية بيد من حديد!!
إن من يطلق على نفسه جبهة (الممانعة) الصلبة ضد العدو الإسرائيلي، يعرف انه بمأمن من جيش الدولة العبرية فهو قد تصالح معها وباع الجولان لإسرائيل، وهذا تواطؤ بل وخيانة لشعبه وأمته، لذا نشر قواته من دبابات وطائرات وبواخر حربية وضباط وجنود في كل أرجاء سوريا، فالتنسيق في المواقف بين الأسد وقادة إسرائيل ترك له الحبل على الغارب (ليعوث) في الشعب السوري قتلا وتعذيبا وتشريدا حتى زاد من قتل على أيدي قواته من شعبه طبقا لتقديرات الأمم المتحدة وغيرها من منظمات حقوق الإنسان على 5000 آلاف قتيل وأضعاف مضاعفة من الجرحى والمعاقين، ناهيك عن الآلاف المودعين في السجون، بينما تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان تؤكد أن من لقوا حتفهم أو جرحوا أضعاف مضاعفة للرقم السابق!!
النظام السوري وجيشه ارتكبوا جرائم غير مسبوقة في التاريخ السوري جرائم ضد الإنسانية، حرقت البشر والحجر، جرائم قتل وتعذيب، جرائم مهاجمة المدنيين العزل بقصد وسبق إصرار، ولهذه الجرائم عقوبات محددة يجب أن توقع على مرتكبيها بعد أن خرق النظام السوري وجيشه قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف لحماية المدنيين، ولم يلتفتوا إلى مناداة منظمات حقوق الإنسان الدولية بوقف قتل مواطنيهم.
إن نصوص مواد قانون المحكمة الجنائية الدولية ومنها المواد الخامسة، السادسة، السابعة، فصلت المفهوم القانوني لجرائم عديدة منها الجرائم ضد الإنسانية وغيرها من الجرائم، وإذا استعرضنا نصوص تلك المواد نجد أن معظم الجرائم التي ورد النص عليها قد ارتكبها نظام دمشق وضباطه وجنوده ضد الشعب السوري الأعزل بلا وازع من دين وخلق ولا رادع من ضمير.
وإذا كانت إيران تؤيد ما يفعله ذلك النظام السوري بشعبه فإن لهذا التأييد أسبابه المعروفة للتوافق بين النظامين في العقيدة والسياسة، وهذا لا يعني أن يتهاون العرب في إرغام الأسد وزملائه على القبول بإرادة الشعب الذي رفع صوته عالياً مطالباً الأسد وزمرته بالرحيل.
ولذا فإن الدول العربية التي لم تسحب سفراءها بعد من ذلك البلد عليها أن تسارع لمقاطعته دبلوماسيا وعزله بسحب سفاراتها ليتكامل حصاره اقتصادياً ودبلوماسياً، وبذل الجهود لتبني مجلس الأمن لقرارات حازمة توقف نزيف دم شعب سوريا الطاهر على يد الطغاة الذين ارتكبوا الجرائم ضد هذا الشعب وراح ضحيتها أعداد غفيرة من النساء والأطفال والشباب والشيوخ في مذبحة كبرى خلال أشهر معدودات، لم تفعل مثله حتى إسرائيل، هذا حتى لا نكون شهداء على جريمة كبرى ترتكب ضد إخواننا السوريين في هذا العصر الذي ينصر الظالم على المظلوم.
(*) رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com