في مقاله تساءل الدكتور حمزة السالم: «فكيف بعض العلماء هذه الأوراق بأن شبهها بالفلوس القديمة فألحقها بها».
أقول فالجواب: إن هذا القياس قياس فاسد؛ لأن الفلوس كانت تستخدم في الأمور التافهة الحقيرة والمحقرات. أما الأوراق النقدية اليوم فلا تستخدم في المحقرات بل في عظائم الأمور وكبارها.
وأيضا مع التنبيه على أن العلة في الذهب ليست الثمنية عند بعض العلماء، قال الماورديّ: ومن أصحابنا من يقول: العلّة كونهما قيم المتلفات، ومن أصحابنا من جمعهما، قال: وكلّه قريب.
وقال النّوويّ: جزم الشّيرازيّ في التّنبيه أنّ العلّة كونهما قيم الأشياء، وأنكره القاضي أبو الطّيّب وغيره على من قاله، لأنّ الأواني والتّبر والحليّ يجري فيها الرّبا، وليست ممّا يقوم بها، ولنا وجه ضعيف غريب أنّ تحريم الرّبا فيهما بعينهما لا لعلّةٍ، حكاه المتولّي وغيره.
ومع ذلك أيضا فقد نص جمع من الفقهاء على أن الفلوس إذا راجت ونفقت (صارت مستعملة بصفة ثابتة دائمة) أي صار لها قبول عند الناس فإنهم يوجبون فيوجبون فيها الزكاة ويجرون فيها الربا بنوعية. قال النووي «وفي تعدى الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه» وقبول العالم جميعا بكل طوائفة الاقتصاديين والسياسيين وغيرهم لهذه الأوراق يدل دلالة واضحة على كونها من الأثمان عُرفا كالذهب والفضة. فقياسك على الفلوس باطل.
وقال ابن سعدي في جوابه: «وأيضاً ما ناب عن النقدين كالورق المتعامل فيه في هذا الزمان حكمه كالنقدين في جريان الربا والزكاة وغيرهما من الأحكام».. فظاهر جدا أن ما ناب عن الذهب والفضة يأخذ حكمهما.
ولو سلمنا بعدم ربوية الفلوس فلا يلزم انتفاء الربا في المعاملة بالفلوس فقد يدخلها ربا النسيئة، لأن ربا النسيئة لا يلزم فيه أن يكون الطرفين من الأصناف الربوية، ولذا فرّق الفقهاء بين علة ربا الفضل والعلة في ربا النسيئة. قال الشيخ عليش: (وكأنه أطلق في قوله لا ربا في العروض ومراده نفي ربا الفضل لوضوحه؛ إذ لا يخفى على من له أدنى مشاركة أن ربا النساء يدخل في العروض، حكاه عن شيخه المنوفي). مواهب الجليل 12 / 370.
وقياسك في غير محله لأن هذه الأوراق أصبحت هي أساس التعامل بين الناس وهي عماد الثروات وصارت -باعتماد السلطات - وجريان التعامل بها- أثمان الأشياء ورؤوس الأموال، وبها يتم البيع والشراء والتعامل داخل كل دولة فهي بهذا الاعتبار أموال نامية أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضة، والشريعة لم توجب الزكاة في الذهب والفضة لمحض ماليتهما ولم توجب الزكاة في كل مال، بل في المال المعد للنماء، والذهب والفضة إنما اعتبرهما الشارع مالاً معدًا للنماء من جهة أنهما أثمان للأشياء وقيم لها، فالثمينة مراعاة مع المالية أيضًا، ولهذا كان عنوان زكاة الذهب والفضة في كثير من الكتب: زكاة «الأثمان» أو زكاة «النقدين».
ومن أجل هذا لا يسوغ أن يقال للناس -إن بعض المذاهب لا يرى إخراج الزكاة عن هذه الأوراق، وينسب ذلك إلى مذهب أحمد أو مالك أو الشافعي أو غيرهم فالحق أن هذا أمر مستحدث ليس له نظير في عصر الأئمة المجتهدين حتى يقاس عليه ويلحق به. وقد بين الشيخ حسنين مخلوف العدوى في رسالته «التبيان في زكاة الأثمان» إذ قال معقِّبًا على تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين المعروف عند الفقهاء القدامى، واعتبار هذه الأوراق سند دين (صكًا كالكمبيالة) لا تجب تزكيته إلا على مذهب من لا يشترط القبض في تزكية الدين إذا كان على مليء مقر- قال: ولا يخفى أن تخرج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين -مع كونه مجحفًا بحق الفقراء على غير ما ذهب إليه الشافعية- مبنى على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقي في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقية.
مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق، وما هو مضمون بها، وبين الدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمة المدين لا ينمو ولا ينتفع به ربه، ولا يجرى التعامل بسنده رسمًا ولذلك قيل بعدم وجوب زكاته، لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًا للنماء، بحيث ينتفع به ربه، بخلاف قيمة هذه الأوراق، فإنها نامية منتفع بها كما ينتفع بالأموال الحاضرة، وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أخذ على المدين للتوثق وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمة المدين، ولا للتعامل به؟! أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضة، مع أن عدم الزكاة في الدين -كما علمت- إنما هو لكونه ليس معدًا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين؟. والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين ما دام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك نظرًا لهذه العلة، واستثنى الشافعية دين الموسر إذا كان حالاً، فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة، نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء، فلو فرض نماؤه كما في بدل الأوراق المالية لما كان هناك وجه لتوقف الزكاة على القبض، ولما خالف في ذلك أحد من العلماء. فالحق أن هذا النوع من الدين نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عند الفقهاء، ولا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يتفق على وجوب الزكاة فيه، لما علمت أنه كالمال الحاضر. إلى أن قال: ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من النقود، ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها، وعن التزام التعهد المرموق بها، واعتبر وجهة إصدار الحكومة لها، واعتبر الملة (الدولة أو الأمة) لها أثمانًا رائجة، لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرد الثمينة ولو لم تكن خلقية كما تقدم في زكاة الفلوس وقطع الجلود والكواغد. فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة: الأول: باعتبار المال المضمون بها في ذمة البنك، وأنه كمال حاضر مقبوض، وإن لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كل وجه. الثاني: زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا. الثالث: زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمة البنك فتزكى زكاة الدين الحال على مليء كما ذهب إليه الشافعي. الرابع: زكاتها باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتاق الملة على اتخاذها أثمانًا للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس كزكاة الفلوس والنحاس» أ هـ.
أقول: هذا الاعتبار الأخير هو الذي يجب أن يعول عليه، في حكم النقود الورقية الإلزامية التي هي عمدة التبادل والتعامل الآن، والتي لم يعد يشترط أن يقابلها رصيد معدني بالبنك، ولا يلتزم البنك صرفها بذهب أو فضة. لقد أصبحت هذه الأوراق النقدية تحقق داخل كل دولة ما تحققه النقود المعدنية، وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك. إنها تدفع مهرًا، فتستباح بها الفروج شرعًا دون أي اعتراض. وتدفع ثمنًا، فتنقل ملكية السلعة إلى دافعها بلا جدال. وتدفع أجرًا للجهد البشرى، فلا يمتنع عامل أو موظف من أخذها جزاء على عمله. وتدفع دية في القتال الخطأ أو شبه العمد، فتبرئ ذمة القاتل، ويرضى أولياء المقتول، وتسرق فيستحق سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد. وتدخر وتملك، فيعد مالكها غنيًا بقدر ما يملك منها، فكلما كثرت في يده، عظم غناه عند الناس وعند نفسه (لا معنى إذن لما يقوله بعض «المتحذلقين» في عصرنا من أن النقود الشرعية هي الذهب والفضة، فهي التي تجب فيها الزكاة، وهي التي يجرى فيها الربا!!).
أما قولك: «وبعضهم كيفها على أنها سلع، وقد لا تزكى عند في بعض الأقوال، إلاً إذا كانت عروض تجارة، وبهذا أفتى بعض علماء المالكية في مصر وغيرها. فتنادى العلماء أن أدركوا الزكاة فهي مطلب شرعي، وقد يمنع الناس زكاتها بحجة أنها ليست عروض تجارة (كما يفتون بعدم زكاة الأراضي اليوم).
وأما قولك: «(لذا فمن أجل تحقيق مطلب الزكاة قرر العلماء قياسها على النقدين. ولكنهم اصطدموا بعدم وجود علة صحيحة منضبطة لهذا القياس. فقام الشيخ عبدالله بن منيع بتتبُّع فتاوى في المذاهب وكلام شيخ الإسلام فخرج عليها علة الربا في النقدين بأنها الثمنية المطلقة (كونها قيم للأشياء). وكل من كتب بعد ذلك فإنما هو عالة على كتاب الورق النقدي لابن منيع. وقد افتخر الشيخ بذلك في حلقة ماضية في قناة الرسالة وأن حتى هيئة كبار العلماء قد تبنّت بحثه، وصدق الشيخ فالفضل يشهد له في جعل الربا في الأوراق النقدية). وهذا غير صحيح فعلة كلام الفقهاء فيها ليس هو إنقاذ الزكاة كما زعمت بل هو فهمك وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده، والعلة الصحيحة المنضبطة قد وجدت بحمد الله تعالى وهي الثمنية علة قائمة بذاتها.
وقيام الشيخ ابن منيع ليس أول من قال هذا ففي كلامك نظر فحمد حسنين مخلوف سابق في رسالة مشهورة والقرضاوي معاصر لابن منيع وقبلهم إشارات من الشيخ عليش وغيره من الفقهاء كما نقلت لك أعلاه فليست المسألة جديدة بل معهودة والعلة معروفة واضحة ولذلك نقلت لك قول العلماء لو راجت الفلوس فأحد الوجهين عند الشافعية أنها مثل النقدين».
وقولك: « وتخريج الشيخ ابن منيع كان له وجه قوي من الصحة آنذاك، لأن الأوراق النقدية كانت مرتبطة بالذهب. فإن قيل سعر الجمل بـ 165 ريالاً فكأنك تقول إنّ سعره أونصة من الذهب. وآنذاك كانت الحكمة وأطروحات الفائدة والتضخم وضرر بيع الأثمان والتجارة فيها كلها منضبطة»
وأقول لك: هذا عليك لا لك فإنك الآن قد اعترفت فقد صارت النقود الورقية لها قيمة مستقلة حتى يسعر بها الذهب وقد قدمنا لك أن الثمنية ووسيلة التبادل هي العلة وحتى الاقتصاديين أقروا بذلك كما نقلته في الحلقة الأولى، وفي زمان الشيخ لم يكن الغطاء الذهبي ذا جدوى كبيرة كما قال الشيخ يوسف القرضاوي أعلاه وهو معاصر تقريبا للشيخ.
وقولك: «ولكن النظام المالي تغيّر بالكلية، وأصبح الذهب سلعة تُسعَر بالفلوس ولا تُسعِر هي الأشياء، بينما أصبحت الأوراق النقدية أثماناً موغلة في الثمنية، فالثمنية جوهر لها لا صفة طارئة عليها»، هذا عليك لا لك فإن الثمنية هي المقياس.
وذهاب الثمنية عنها ذهاب لأصلها وجوهرها فإنما هي أرقام. بينما احتجبت الثمنية عن النقدين، فبطلت علة الشيخ ابن منيع اليوم وامتنعت لأنها تلزم إبطال الربا في النقدين.
وأقول: إنما أوتيت من قبلك فمن قاس الأوراق النقدية على الذهب والفضة فقياسه غير صحيح مع جوازه فالعلة منضبطة وهي الثمنية، فالثمنية هي الأساس ولا نحتاج للقياس لأنا قدمنا في أول المقال أن حصر الثمنية في الذهب والفضة عند الشرعيين والاقتصاديين غير صحيح لكن حتى مع القياس فيصح ويبطل كلامك. فكل ما يكون ثمنا والذهب والفضة أثمان فكانت مقياسا ومعيارا فالعلة هي الثمنية سواء موجودة في الذهب أو البعير الأعرج أو غيرها، فالشبهة جاءتك من القياس فأنت يبدو أنك لا تثبت القياس وظاهريتك واضحة وحصرك للثمنية في الذهب غير صحيح ومنه أوتيت.
وقولك: «كما أنّ الحكمة قد انعكست، فكل ما كان يعتبر ضرراً على الأسواق وظلماً، أصبح منفعة وعدلاً بالجملة».
فالجواب: هلا أعطيت مثالا لتلك القاعدة القوية، فالربا يصبح مصلحة والحرام يصير نافعا والشريعة قوامها النهي عن كل فاسد وما كانت مفسدته راجحة أو غالبة. والغربيون يكذبونك الآن واعترفوا بشؤم الربا وخطره وأنه سبب تلك الأزمة العالمية.
د. محمد بن يحيى النجيمي