سأدخل في الموضوع مباشرة على خلاف العادة في الكتابات التي تمهد للدخول في المراد. فأقول: تعود الناس في البرامج الإعلامية وبخاصة الكتابات الصحفية وفي المواقع الإلكترونية والمجلات إلى أن يكون النقد للسلبيات حتى ولو لم تذكر الحلول والعلاجات وتطغى هذه الكتابات في ثقافة الصحافة
الإلكترونية أو الورقية ونحوها.
وهذا أمر ليس سلبيًا محضًا، وإنما هو طريق لابد منه لتصحيح الأوضاع السلبية، وعلاج المشكلات الآنية والمستقبلية، وإيجاد الحلول المناسبة لها.
بل هو أمر شرعي يدخل في مبدأ (إنكار المنكر) الوارد في النصوص القرآنية كقوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ . وكقوله عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وذلك إذا كان النقد صحيحًا.
لكني في هذه الأسطر سآخذ المسار الآخر، وسأسميه مسار (الشكر) وهو النظر إلى الإيجابيات، والانطلاق للعمل والتصحيح والإصلاح من خلالها على حدّ قوله تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .
وهذا المسار أعظم به، وأكبر، لأنه المسار الأصل فيه يُهتدى إلى الطريق السليم، ويُوصل إلى الغايات المطلوبة، وفيه الزيادة من الخير، ويبعث على الطمأنينة في النفس، كما أن فيه النظر الكلي والشمولي، وعدم طغيان الجزئيات والمشكلات على أصل المسار، وهو المحبب للنفس والباعث على إنتاجها، وفيه استثمار القدرات والإمكانات من الشخص ذاته، ومن المجموع، وهو الذي يمنع جحدان الحق، أو تصغيره في النفوس، كما يمنع نكران النعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى علينا، وفيه النظرة التفاؤلية للمستقبل وهي مطلب شرعي مهما اشتدت الخطوب وتكالبت المحن.
كل هذا وغيره يدعونا لتأمل بعض الإيجابيات لنشكر الله تعالى ونسأله المزيد، ونسعى للتنمية، والإصلاح فتصاغ البرامج من خلالها.
ولست هنا معددًا للإيجابيات والنعم فتلك وأيم الله تعالى لا يحصيها أحد سوى الله تعالى كما قال سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}، ولكني أورد إشارات ضوئية تهدي إلى هذا المبدأ، وأمثلة واقعية تكون دليلاً على غيرها.
- معالم هداية:
أولها: استشعار عظمة الله سبحانه وتعالى بأنه الخالق المالك المتصرف المدبر للأمور كلها يقول للشيء ?كن فيكون?، والسميع البصير، والحليم الحكيم، ورحمته وسعت كل شيء، وعلمه أحاط بكل شيء، لا تختلط عليه اللغات، ولا تختلف عليه اللهجات، المنعم على عباده، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، سبحانه وتعالى.
إن إدراك هذا وغيره من صفات المولى جلّ وعلا وأفعاله الحكيمة يضفي على النفس السكينة والطمأنينة، ويعزز العقيدة التي يعتقدها المسلم بتوجيه العبودية الحقة له سبحانه، ولا معبود بحق سواه.
وثانيها: أن لله حكمًا في جميع تقديراته، وقضائه، يعطي فلانًا ويمنع فلانًا، ويقدر ما ظاهره النعمة، وما ظاهره النقمة على الأفراد والأسر والمجتمعات كل ذلك لحكمة يعلمها سبحانه وإن ظهر شيء من أفرادها لمن يتأمل فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً .
هذا المعلم يورث في النفس عظم الثقة بالمولى، وحسن الظن به جاء في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي». كما يشعر النفس بعظم نعم الله سبحانه والتأهل لشكرها وهي وصية النبي- صلى الله عليه وسلم- لمعاذ رضي الله عنه: «يا معاذ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».
وثالثها: إدراك أننا محاطون بنعم عظيمة، وننعم بإيجابيات كثيرة ابتداء بالنفس: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ .
فكم ينعم الإنسان بوجوده؟ وبسمعه؟ وببصره؟ وبيديه؟ وبرجليه؟ وبعقله؟ وبحواسه؟ وحسن خلقه؟ وبقدراته؟ وباستطاعته على العمل؟ وقد خلقه من العدم وهو لا يعرف شيئًا فأحسن خلقه وعلمه وهداه، وأطعمه، وسقاه... في نعم لا يحصيها إلا هو سبحانه.
إن هذا الإدراك هو أقوى دافع للاستفادة من هذه النعم واستثمارها في رصيد الحسنات في الآخرة، وفي الاستمتاع في هذه الدنيا الاستمتاع المشروع، وفي البناء والتقدم في مختلف المجالات النافعة، وفي السعي إلى إصلاح ما فسد من أحوال الناس.
ورابعها: محاولة اكتشاف الإنسان نفسه، بم يكون تميزه؟ وماذا لديه من القدرات والإمكانات لكي يطوّرها، ويسهم من خلالها في نفع نفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه وأمته.
كما يحاول اكتشاف المجالات في مجتمعه ومحيطه الذي يعيش فيه فالحيوانات والدواب على اختلافها هداها الله سبحانه لهذه الاكتشافات فسعت في جلب رزقها، تأمل معي حالة النمل، والنحل، والطير، وحالة سائر الأنعام... كيف هديت؟ وكيف تكوّن مدارس للإنسان.
هذا وذاك يتطلب جهدًا متميزًا لكي يستثمر الإنسان ما يعينه على مسيرته في هذه الحياة فيكون لبنة قوية من لبنات البناء، ويقاس على الفرد المؤسسات بمختلف مجالاتها في المجتمع فتبحث عن تميزها لاستثماره.
وخامسها: إعطاء النفس حقها من التعلم الذي يقودها إلى حسن الحال والمستقبل والإفادة من تجربة الماضي، التعلم لكل شيء إيجابي ابتداءً بالواجبات الشرعية، وبالواجبات المجتمعية، وبالفضائل والأخلاقيات والطرائق والأساليب والآليات وغيرها.
هذا التعلم يقود النفس إلى الإنصاف في تناول الأشياء وتغليب جانب التفاؤل، وعمل الأهم فالمهم، واستثمار اليوم والليلة في البناء الإيجابي.
- أمثلة إيجابية:
وهنا أذكر جملة من الأمثلة لعدد من الإيجابيات النوعية في مجتمعنا المحلي وينطبق كثير منها على سائر المجتمعات.
* وحدة المجتمع تحت قيادة واحدة ذات نظام أساسي واحد معلن قام على ثوابت راسخة، على التنوع الموجود في التركيبة السكانية، وفي الاختلافات المذهبية.
* قيام هذا النظام على أسس واضحة، من أهمها: صياغة أنظمته على الشريعة الإسلامية، وبما يراعي المصالح العليا ويدرأ المفاسد فيما لا يخالف الشريعة في أمور الحياة التنظيمية.
* وجود العلماء الراسخين المعتبرين المشهود لهم بالعلم والذين أنفقوا حياتهم في العلم والتعليم وهداية الناس، ووجودهم في مجتمع هو حماية له وحصن حصين من الدخائل والموبقات فضلا عن نشر الفضائل، وصيانة الحرمات، والنصح للراعي والرعية.
* التحاكم القضائي على الشريعة سواء في المحاكم أو الهيئات أو غيرها ممن يناط به الحكم، بل يستطيع المحكوم عليه نقضه إذا كان مخالفًا لأحكام الشريعة بناءً على النظام الأساسي للحكم.
* الأمن والأمان، وهو من أكبر المكتسبات إذ لا تطمئن النفوس لأي مشروع، أو تقوم بأعمال إيجابية كبيرة إلا في ظل الأمن، وهو أول دعوة دعا بها خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام لمكة بقوله: (رب اجعل هذا البلد آمنًا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة فأمنهم عليه الصلاة والسلام.
* قوام الحياة على المال، وقد أنعم الله تعالى به على هذه البلاد حتى كانت محط الأنظار، وهدفًا للحاسدين، وسائر الأعداء.
* الترابط الاجتماعي الذي يقرّبه المخالف أكثر من غيره فالأسرة مترابطة، والقرابة مترابطة في شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها فيما يكون أثره إيجابيًا عظيمًا حتى على سلوك الأفراد.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورته الشمولية كما هو في هيئة الأمر بالمعروف، أو بصوره الجزئية كما هو في مكافحة المخدرات، والقتل ومكافحة الفساد، والغش التجاري وغيرها.
* تنوع الوسائل الدعوية ورعاية الدولة ومؤسسات المجتمع لها مما يتيح فرصًا كبيرة للدعوة بالتي هي أحسن.
* تعدد وسائل التنمية في مختلف المجالات وبخاصة التعليمية والتربوية فيما يقل نظيره في المجتمعات المشابهة.
وغيرها من الإيجابيات، لكن حسبي الإشارة إلى المراد.
* كيفية الاستثمار:
لا شك أن النظر إلى الإيجابيات يدعو إلى التفاؤل، ويوجه إلى البناء من خلالها وهذا من شكر النعمة لأن الشكر ليس قولاً فحسب، وإنما هو قول مقرون بالعمل فإذا لم يصاحب العمل أصبح ادعاءً.
ويمكن استثمار تلك النظرة من خلال معالم منها:
* اعتقاد أن هذه نعم من الله سبحانه وتعالى ولم تأت لولا توفيق الله سبحانه، وعليه فيطلب الإنسان المزيد، والمجتمع يطلب المزيد، والدولة تطلب المزيد انطلاقًا من هذا الاعتقاد.
* أن يتعاون الجميع لإقامة الأعمال الإيجابية الفردية والجماعية لأن القيام بأمر الله من استثمار للموجود، وعوامل المزيد، قال تعالى: ( اعملوا آل داود شكرًا).
* أن تقوم المؤسسات الحكومية وغيرها ببرامجها وفق قدراتها وإمكاناتها الموجودة، والمتأمل في كثير منها يجد أنها تعلق بعض أعمالها، أو إخفاقها وعدم نجاحها لعدم الإمكانات التي تتصورها كقلة الموظفين، أو ضعف الميزانية المرفوعة ولم يوافق إلا على بعضها، أو عدم وجود كوادر مؤهلة...
لكن إذا قارنت هذا المفقود بما هو موجود فلا يتجاوز 20% فَلِمَ يعلق النجاح على المفقود المتصور؟! أليس من الخير استثمار الموجود وفيه خير كثير؟ أو أليس من الأفضل أن يكون النتاج تدريجيًا فيتحقق كثير من المراد؟! ولم لو قلبت هذه المؤسسة إلى أن تكون مؤسسة خاصة خرج نتاجها الصحيح وحلت كثيرًا من مشكلاتها؟ وفي الاتصالات عبرة.
* وما يُقال عن المؤسسات الكبرى، يقال كذلك عن المشاريع الفردية والمؤسسات الصغرى، وما شابهها.كم من الطاقات المهدرة على مستوى أهل الفكر والرأي في طرح ما لديهم؟ مما تسمعه في المجالس ونحوها، وتصوّر لو أن كل عالم أقام درسًا في مسجده أو بيته كم يتحصل لدينا من نشر العلم، ولو أن كل عاقل شارك أسرته أو عائلته الكبرى وتعاون معهم في حل مشكلاتهم، وتجاوز عقبات الحياة كم يتجاوز أولئك من المحن والصعاب؟! ولو أن كل تاجر أعطى 1% من ماله من غير الزكاة في مشروع ينفع المجتمع فيوظف شابًا، ويعين متزوجًا أو يواسي أسرة يتيمة فيحل فاقتها، ويطبع كتابًا نافعًا، ويسهم في مشروع خيري... فهل يكون لدينا عاطل؟! ولو أن كل مسؤول راعى مسؤولية الدقيقة من خلال برامج مؤسسية هل يبقى تقصير يذكر؟!
أعتقد أننا بهذا نسهم إسهامًا كبيرًا في نمو المجتمع، وحل كثير من المعضلات، ولا نعلق مشكلاتنا على المفقود.
* ومن مواضع الاستثمار الإيجابي أن يشتغل أهل الفكر بالدراسات النافعة على أي مستوى من المستويات، والرقي بالطرح الفكري وإعمال الأصول والثوابت بهدوء نفسي، وعدم توتر، وبإيضاح للفكر، هل بعد هذا ستكون دراساتنا نفعية أو ذاتية أو.... الخ. مما يعرفه المشتغلون بهذه المجالات.
ومن العجب أن تجد بعض المؤسسات الفاعلة لا يوجد لديها مركز أو شعبة للدراسات التي تخصها، وإنما تمشي بحسب حال مسؤوليها، ومن يعمل معه أليس في هذا عدم استثمار للمؤسسة وتاريخها ومنجزاتها وعدم بناء لمستقبلها؟!
* ومنها: أن يتوجه أهل كل تخصص لاستثمار ما يمكن من مجالهم مما سبق ذكره فأهل الدعوة يستثمرون الإمكانات الموجودة، ويفعلون القدرات بمجالات الكلمة، والكتابة، ومشاريع التعليم كتحفيظ القرآن الكريم، ومجالات الإعلام كالمواقع الالكترونية وغيرها لكان في ذلك ما يستوعب الجهود وزيادة، مبتعدين عن تضارب الجهود، وتكرارها، وعدم تكاملها، متحررين من (الأنا) و(الرؤية الذاتية) و(المنابذة للآخرين) فضلاً عن (الاتهام) أو (التنقص) وغيرها.
وأهل المال يستثمرون ما منحهم الله تعالى فيكون لكل قادر مشروع تنموي أو خيري يستثمر فيه، وأهل الاجتماع والإدارة والسياسة وغيرها كذلك.
* ومن المعالم المهمة: استحضار المعالم الكبرى السابق ذكرها كالاجتماع على العقيدة، والإيمان بالمرجعية العلمية، والشعور بأهمية الوحدة الوطنية، واستشعار قيمة الأمن، وتوفر الإمكانات المالية. لا شك أن هذا الاستحضار يعطي قوة في الانطلاق وطمأنينة في الأعمال، وتقدمًا في المنتج، واستثمارًا لكثير من الإمكانات.
* * *
تلك إشارات لمعالم الاستثمار لتكون دليلاً على غيرها، وأعود لأقول ما ذكرته في البداية من أن هذا المسار هو الأصل للرقي والتنمية والإنتاج ولإعمال الطاقات والكوادر لكنه لا يلغي دور المسار الآخر، ودور العلاج لما يقع من الأخطاء، وفي الوقت نفسه لا يجوز إشغال الكبار والصغار، والمختص وغير المختص به فالمجال رحب، ومن فقه الأولى العمل على المسار الأصل مسار (الشكر) وعدم إهمال الآخر.
حقق الله الآمال وسدد الخطى.
(*)عضو مجلس الشورى
Faleh@alssunnah.com