منذ صغري وأنا أستمتع بالقراءة، ولطالما استهوتني في طفولتي قصص الإرادة البشرية لأنها تثير الأمل والطموح، وقد وقعت ذات مرة على كتابات للكاتب العلمي «لوك يوكنتو» يتكلم فيها عن سباقات الماراثون وأثارت إعجابي. الماراثون سباق طويل يبلغ من الطول 42 كم يقام في شتى أنحاء العالم، ولأنه أطول سباق معروف فإن الكثير من الناس يتنافسون لإكماله ليس للفوز بجائزة ولكن ليثبتوا لأنفسهم أنهم أقوياء الروح، وخذ مثالاً على ذلك ما حصل في أكتوبر عام 2011م، وهو عندما وصل «فوجا سينغ» أخيراً إلى خط النهاية في ماراثون تورونتو في كندا، وكان هو آخر المتسابقين وصولاً.
أصحاب المراكز الأولى يكملون هذا الماراثون في ساعتين، ومتوسط وقت الغالبية هو 4 ساعات، ولكن سينغ وصل في 8 ساعات.
السبب بسيط: هذا الرجل يبلغ من العمر 100 سنة! بدأ في سباقات الماراثون منذ أن كان عمره 89 سنة ومنذ ذاك وهو يكسر أرقام الماراثونات القياسية المتعلقة بالعمر، فقد أكمل 7 ماراثونات حتى الآن وهو أسنُّ إنسان يكمل كلاً منها.
لكن موسوعة غينيس للأرقام القياسية لا زالت ترفض تسجيله لأنه لا يملك شهادة ميلاد، رغم أنه زودهم بجواز سفره ووثائق أخرى إلا أنها لم تكن مرضية لهم.
لكن لا يهم، فهذا إنجاز مدهش، وهو يذكرنا بقصة أخرى، فإن إكمال الماراثون في حد ذاته أمر بالغ المشقة حتى للصحيح فكيف بالمريض؟ فقد استيقظ «باتريك فيني» من نومه ذات ليلة في عام 1998م وهو يشعر بخدرٍ في ساقيه، ولما ذهب للطبيب أفاده أنه قد أصيب بمرض التصلب اللويحي، وهو مرض يضر المخ والعضلات لا علاج له، وعندما أتى عام 2004م وصل المرض لمرحلة جعلته معاقاً لا يستطيع المشي.
شمّر فيني عن ذراعيه وبدأ في تناول الدواء والعلاج الطبيعي، وبعد آلاف الساعات من التمرين بدأ يستطيع أن يقف متوازناً على قدميه، ثم بدأ يستطيع أن يسحب قدماً ويضعها أمام الأخرى، حتى إنه في السنة الأولى من هذا العلاج كان يشتري زوجاً جديداً من الأحذية كل أسبوعين وذلك بسبب تآكل أحذيته من كثرة سحبها على الأرض.
في شهر سبتمبر من عام 2011م أكمل فيني ماراثونه الخمسين، فقد أكمل ماراثوناً في كل من ولايات أمريكا الخمسين، وهو أول شخص بمرض التصلب اللويحي يحقق هذا الإنجاز.
العمر المتقدم كما في حالة سينغ والمرض كما في وضع فيني حالتان محدودتان، ولكن ماراثون سيبيريا السنوي فريد في مشقته ويشترك في هذه المشقة المتسابقون كلهم، فيجتمع عشرات المغامرين كل سنة ويهرولون على سطح بحيرة «بيكال» المتجمدة، وهي أعمق وأقدم بحيرة على كوكبنا، عمرها 30 مليون سنة وعمقها 744 متراً، وهذا الماراثون شديد البرودة لا يكمله إلا العُشر من المتسابقين عادة كحد أقصى.
في أبرد مواسمه على الإطلاق عام 2001م وصلت درجة الحرارة إلى 42 تحت الصفر! ولم يكمل السباق إلا 11 شخصاً من بين 134، أي 8% فقط، وهو ما يماثل نسبة قبول الطلاب في جامعة هارفارد الشهيرة.
أما من ناحية العدد المتواصل فيجدر الإشارة إلى الشيخ أكينيرو كوسودا والذي جرى ماراثوناً كل يوم لمدة اثنين وخمسين يوماً متتالية وهو أبو 65 سنة.
كان هذا هو الرقم القياسي، إلى أن أتى «ستيفان انجلس» البالغ من السن 49 سنة فحطمه.
بدأ ستيفان جري الماراثونات في أول يوم من عام 2010م ونوى أن يجري ماراثوناً كاملاً كل يوم لكامل عام 2010م، ولكن بعد أسبوعين من الماراثونات اليومية أصيبت قدمه ولم يستطيع المواصلة، فانتظر إلى أن تعافى وبعدها بدأ الجري، والتزم بوعده، فجرى ماراثوناً كاملاً كل يوم لمدة 365 يوماً أي سنة كاملة انتهت في أول عام 2011م، قطع فيها أكثر من خمسة عشر ألف كيلومتر واستهلك أكثر من 25 زوجاً من الأحذية.
أخيراً نذكر المغامر البريطاني «رانولف فاينس» والذي أكمل 7 ماراثونات في 7 أيام في 7 قارات.
رغم أنه شارف على الستين إلا أنه قطع ما يقارب الثلاثمائة كيلومتر في أسبوع، فجرى ماراثوناً في تشيلي (أمريكا الجنوبية)، نيويورك (أمريكا الشمالية)، سنغافوره (آسيا)، القاهرة (أفريقيا)، لندن (أوروبا)، سيدني (أستراليا)، وجزر فوكلاند والتي تُعتبر حسب بعض المعايير جزءاً من القارة القطبية الجنوبية أو أنتاركتيكا.
قال فاينس إن أشقها كان ماراثون سنغافورة بسبب الحر والرطوبة والتلوث، واجتمعت هذه العوامل لتُسقطه على الشارع بعد أن كاد يُغمى عليه، ولكنه استجمع بقية من طاقة وأكمل الماراثون.
إذا استصعبت فعل أمرٍ ما فتذكر هؤلاء، وكما قال أبو تمام:
لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا