بقاء الدول يقوم على مرتكزات ترتبط ارتباطاً قوياً بالعصر الذي تعيش فيه. فبقاء الدول في الماضي كان له أسس وعوامل تختلف عن بقائها اليوم؛ غير أنّ الاقتصاد يبقى عاملاً رئيساً ودائماً كأُسٍّ من أُسس بقاء الدولة وتكريس شرعيّتها؛ وعندما يختل العامل الاقتصادي فإنّ نذر النهاية تبدأ تلوح في الأفق. في الماضي، وقبل أن يُحرم المجتمع الدولي الغزو، واقتحام الدول بالقوة، كان الغزو مصدراً مهماً من مصادر اقتصاديات الدول؛ فغنائم الحروب كانت تقسم بين متطلّبات القائد (الدولة) والشعب (المحاربين)؛ وكان الجيش حينئذ هو من يموّل اقتصاد الدولة، وكذلك يحمي بشوكته وهيبته قوّتها ومِنعتها. وعندما جَرّمَ المجتمع الدولي الغزو، وجنحَ إلى السلم، وفرضه، كان لا بد للدول وكذلك الشعوب من إيجاد طريقة أخرى لتمويل الاقتصاد غير الغزو والحروب؛ أو احتلال الدول الأضعف وامتصاص خيراتها، كما كانت تفعل الدول الاستعمارية في القرون الثلاثة الماضية. كانت (التجارة الدولية) هي البديل؛ ففي عالم يكتنفه السلام كان التبادل التجاري بين الدول هو البديل للغزو، فتوجّهت سواعد الإنسان من الغزو وامتشاق الحسام وإراقة الدماء إلى العمل والإنتاج وبناء الاقتصاديات؛ لذلك أصبح الأقوى اليوم ليس من يملك جيشاً جراراً لا يُهزم، وإنما من يمتلك اقتصاداً منتجاً يُلبِّي حاجات شعبه كأولوية مطلقة، ويبني نهضته من خلال تراكم الثروات الذي ينتجها اقتصاده، أو من خلال التبادل التجاري مع الدول الأخرى. اليابان لا تنتج السلاح، وتخاف من الحروب، وترتعد فرائص مواطنيها من ذِكر الحرب بمجرّد أن يتذكّروا نكازاكي وهيروشيما والقنبلة الذرية؛ وهي اليوم قوة ناعمة تفرض نفسها في كل المحافل الدولية باقتصادها وليس بسلاحها؛ ناهيك عن الرفاهية التي يعيشها إنسانها. الاتحاد السوفييتي سقط وتلاشى وتشظّى إلى دول لأنه كان هزيلاً اقتصادياً رغم أنه كان قوّة عظمى عسكرياً، لا يُضاهي قوته إلاّ الولايات المتحدة؛ ورغم كل ذلك أسقطه الفشل الاقتصادي ونقله من الجغرافيا إلى التاريخ.
كذلك فإنّ الأنظمة التي لفتها عواصف الربيع العربي مؤخراً - ما عدا النظام الليبي - هي الأنظمة الضعيفة اقتصادياً، ومن نَخَرَ الفساد، وسوء توزيع الثروة الوطنية، مجتمعاتها؛ فالفشل الاقتصادي بمعناه الواسع (نموّاً أو توزيعاً)، والفساد المعشش في آليات صناعة القرارات التنموية، كان في رأيي هو السبب الأول والأهم لسقوط هذه الأنظمة، ثم تأتي الأسباب الأخرى كأسباب إضافية ربما؛ غير أنّ (شرط الضرورة) الذي كان باعثاً للثورة هو السبب الاقتصادي؛ أما النظام الليبي فلم يسقطه الثوار وإنما قرار عسكري غربي بعد موافقة مجلس الأمن. وفي السياق نفسه فإنّ بقاء الصين قوية ومستقرة ومتماسكة، رغم أنها دولة قمعية، ديكتاتورية، لا تحفل بالحريات، سببه قوّتها الاقتصادية، وقدرتها على توفير حدٍّ أدنى من الدخل والخدمات الحياتية يرتضيه الإنسان الصيني، ما أدى في النتيجة إلى بقاء (العقد الاجتماعي) بين الحاكم والمحكومين متماسكاً.
كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة، إنّ الدولة التي تنمو اقتصادياً بمعدّلات معقولة، ويوزّع نموّها بين أفراد شعبها بعدالة، هي دولة مستقرة، تمر بها الأزمات مرور الكرام؛ والعكس صحيح؛ فكلما تدهور اقتصاد دولة، أو اختلّت عدالة توزيع ثرواتها بين مواطنيها لا بد وأن تسقط. هذه الحقيقة قالها التاريخ مرات ومرات، وأكدتها عواصف الربيع العربي التي عصفت بمن كان هشاً، في حين بقيت الدول القوية اقتصادياً في منأى عن آثارها.
إلى اللقاء.