«تلك الموقعة بمظهرها العجيب لخصت ما سبقها وما لحقها من تفكير وعقلية تدير سياسات وتنفذ إجراءات حكومية في أكثر من بلد عربي».
كانت المناورات الحربية للقوة الجوية السورية في الأسبوع قبل الماضي مثيرة للعجب..
.. بكونها لا تختلف كثيراً عن تهديدات القذافي وهو في أسوأ حالاته بقدرته على ضرب مدن غربية ومصالح أجنبية؛ ومن قبلهما صدام حسين بمقولته الشهيرة: «سينتحرون على أسوار بغداد». وكما يعمل النظام السوري على حشد الجماهير الموازية للمتظاهرين، ويعرض بقدراته وقوته الحربية في زمن متأخر؛ كان القذافي كذلك ينادي بخروج الملايين ويهدد بقدرته على المطاردة زنقة زنقة. وقد كان صدام يهدد بعرض قوته وعظمة دفاعاته بفقاعات من الكلام لا تستند إلى واقع أو إمكانات أو خطط في الوقت الذي للأسف تمكنت فيه قوى الغزو والاحتلال من تجاوز ودك تلك الأسوار مادياً ومعنوياً.
ولذلك، فإن استعراضات القوة السورية بقدراتها الحربية الجوية والبرية في هذا الوقت من الأزمة الداخلية يعد تصرفاً دعائياً فارغاً من أي تأثير. والمحزن، أن ليس هنالك في مسارح الأزمات الراهنة من يقرأ تاريخ الأزمات الإقليمية ماضيها وحاضرها، وقريبها وبعيدها. ولذلك تصبح النتائج متشابهة، وهذا ناتج ومصير منطقي يتكرر، مما يثبت فشلاً مؤكداً في إدارة الدولة.
وتعد عمليات إدارة الدولة من أخطر الأمور، ولا يفترض أن يعول فيها على العواطف الشخصية، وردود الأفعال، أو حوادث الصدفة بما فيها من إيجابي أو سلبي. ولا تستطيع دولة أن تستقر وتستثمر استقرارها في تنمية وازدهار إلا من خلال رؤى واضحة تنفذها في شكل استراتيجيات طويلة ومتوسطة وقريبة الأجل. وتعمل الحكومة القادرة والمدركة لواقعها على فهم البيئة الوطنية والإقليمية والعالمية وما فيها من متغيرات يمكن أن تؤثر على استقرار الدولة بأية نسبة محتملة.
ويرى المتابع لأحداث الربيع العربي أن هنالك حكومات لا تدير شؤون بلادها انطلاقاً من مقومات حكيمة تضمن الاستقرار وتمنع نشوء الأزمات، أو تسيطر عليها فور نشوئها، وتخرج منها بأقل الخسائر الممكنة. ولا تبحث هذه المقالة في خلفيات الأحداث بقدر ما تشير إلى وجود أكثر من خلل لو تم تجنبها لما كنا شهوداً على ما سمي «بموقعة الجمل» في ميدان التحرير بالقاهرة. تلك الموقعة بمظهرها العجيب، لخصت ما سبقها وما لحقها من تفكير وعقلية تدير سياسات وتنفذ إجراءات حكومية، في أكثر من بلد عربي.
ومن يتابع سير الأحداث بدءاً بتونس ثم وقوفاً عند الحالة السورية اليوم يصاب بالحزن على ما وصلت إليه الأحوال الأمنية في بعض الأقطار العربية؛ وما وصل إليه حال التضامن العربي المفترض. ومن متابعتي الشخصية بالقدر الذي يتضح لي عن مستوى إدارة الأزمة في كل من تونس ومصر فليبيا ثم سوريا -وهي الأبرز حالياً- أن الحكومات تدير أزماتها برؤية ضيقة يمكن ترجمتها بهذا المفهوم: (كم نقتل من المتظاهرين قبل أن ...). وأما قبل ماذا، فهي احتمالات قد تكون أسوأ من بعضها، بحسب الموقف السياسي لكل أزمة؛ وعند كل مرحلة من الأزمة. ليس هنالك ما يمكن ترجمته بأنه استراتيجية حكيمة مدروسة ومفهومة وقابلة للتطبيق من كل الجهات ذات العلاقة بالتنفيذ الميداني، أو فيها خيارات ولها آليات منطقية. ما نشاهد من فعاليات رسمية في مسارح الأحداث لا تعدو كونها أعمالاً عبثية يائسة وغير مترابطة.
فإذا حصرنا الحديث عن سوريا اليوم في إدارة حكومتها للأزمة، وتمعنا جيداً بحجم الأزمة وانتشارها في معظم أجزاء سوريا ومدنها، لأمكننا التساؤل عن عدد القتلى المفترض أن يسقطوا حتى تنتهي الأزمة. ويمكن للمتسائل من منظور صانع القرار أن يتصور عدداً من الافتراضات التصاعدية لانتهاء الأزمة من قبيل الآتي: كم نقتل من المتظاهرين قبل أن يعود الناس إلى بيوتهم؟ وكم نقتل قبل أن يصدر قرار من جامعة الدول العربية؟ وكم نقتل قبل توقيع اتفاقية أو برتوكولا من الجامعة؟ وكم نقتل قبل وصول المراقبين العرب وبدء مهمتهم؟ ثم كم نقتل قبل أن تنتقل الأزمة بثقلها إلى مجلس الأمن؟ وهكذا!.
ويمكن أن يصبح افتراض التساؤلات بمفهوم آخر أكثر منطقية، يقود إلى الهزيمة مثل: كم نقتل قبل أن تنهار الحكومة فجأة، بأي سبب غير محتمل؟ وكم نقتل قبل تدخل طرف آخر يخلط الأوراق فتنهار الحكومة أسرع مما نتوقع؟ وكم نقتل قبل أن نغادر البلاد مرغمين إلى جهة مجهولة؟ وهكذا، لا يجد المراقب أن هنالك حكمة في إدارة تلك الأزمات بما يمكن أن يعتبر توازناً بين متطلبات وتطلعات أطراف الأزمة.
ورغم ما يفترض أنه معروف لكثير من صناع القرار في دول الأزمات الراهنة من مقومات إدارة الأزمات، إلا أن كثيراً من وصايا الفكر الاستراتيجي والتنظير تذهب أدراج الرياح ما يؤكد ضعف البنية القيادية لتلك الدول. لا يمكن لدولة متمكنة من آليات صناعة القرار الوطني أن تكون ردود أفعال قياداتها بهذه الطريقة، لأن للدول المتمكنة استراتيجيات عظمى تعكس كيفية إدارة قوى الدولة في مواجهة الأحداث، تتزامن مع استراتيجيات عسكرية وأخرى أمنية تقوم على عدد من الافتراضات الواقعية المتجددة.
ويلخص أستاذ الإستراتيجية الأمريكي آرثر لايكي أن «الإستراتيجية لا بد لها من غايات ووسائل وطرق عمل». وصحيح أن نشوء هذه الأزمات كان أسرع من تكيف الحكومات لقبولها، وأصعب من قدرتها على تبني الخيارات الأفضل للخروج من الأزمة. وبالتالي فإن من يتابع تلك الأزمات، ويحاول تحليل مضامين إدارتها، يدرك عدم وجود أي إستراتيجية مقبولة، ويثبت له أنها مجرد خطط عمل يومية جامدة؛ لا تقود إلى غايات أفضل، ولا ينتج عنها إلا المزيد من السوء والجمود. وفي ذلك يقول ماو تسي تونغ وهو الشهير في مجال الأزمات المشابهة: «إن الخطة تعدل جزئيا في كل عملية تقريبا وأحيانا تغير كلها، وأما الشخص الذي يفتقر إلى المرونة ولا يعدل بخطته فيضرب رأسه بالحائط».
وفي هذه المرحلة من الجمود السوري، أعتقد أن من يدير الأزمة من الجانب الحكومي قد أساء فهم بيئة هذه الأزمة، وأساء فهم البعد الإقليمي والدولي؛ وكذا بالغ في فهم طبيعة ومحددات التدخل الخارجي. وهذا الواقع السوري إن استمر على ما هو عليه -وفي ظني أنه سيستمر- فسوف يقود إلى ما يشبه أسوار صدام وزنقة القذافي، فمن كان الجمود نهجه سقط الحائط فوق رأسه قبل أن يفيق من غفلته.
*عضو مجلس الشورى
mabosak@yahoo.com