في يومين من بداية شهر صفر 1433هـ، أقامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ندوة السلفية منهج شرعي ومطلب وطني، هذه الجامعة التي زرع بذورها، رائد السلفية في الجزيرة، ومذكى حماسة منشطوا جذورها التي نبتت من مشكاة النبوة، وأينعت ثمارها بفروع امتدت مع الفتوحات التي قطفها صفوة ممن أراد الله بهم الخير لأن الله يهدي من يشاء، إذْ ما مات رسول الله إلا وأمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ثم بلغت أنوار دين الله الحق، في مسيرة سلفية المحيط الأطلسي الذي وقف على جنباته موسى بن نصير في حماسته لنشر دين الله الذي هو الحنيفية السمحاء، مخاطباً مياه المحيط، لو أعلم وراءك بشراً لخضت إليهم لإبلاغهم دين الله.
ومن الشرق زحفت الجحافل حتى مجاهل سيبيريا فأوقفتهم الثلوج، التي دخلوا غمارها بشجاعة، حتى أيقنوا أن ما وصلوه لا قدرة للبشر بسكنها، حيث يروى عن عبدالله بن عمر، أنه كان في المقدمة فهذه صفوة السلف.
وتمر الأيام تلو الأيام، حيث إن السبات والجهل بأمور لتدخل البدع، وتقليد الأمم المغلوبة، ويأتي من يقول مع الفعل {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف 22)، وتصديقاً لأمر الله بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر 9)، يحفظ هذا الدين، الذي ختمت به الرسالات السماوية فقد جاء هذا التوجيه الكريم بتأكيدات بعضها يمكن بعضاً، للدفاع وتحقيق ما يريده الله لحكمة، ثم تمحيص القلوب بما طمأن رسول الله أمته، ببقاء هذا الدين السلفي النقي في الفئة المنصورة إلى قيام الساعة، وبشارة أخرى بأن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة دينها، وهذا ما دفع المخلصون للدفاع عن السلفية وتأصيلها كل بطاقته.
والمعنى الذي فهمه علماء الإسلام هل يكون في كل مكان أو فئة واحد منهم تؤدي هذا الدور، أو يغني الشمول واحد، في جميع أصقاع الأرض، والظاهر والله أعلم أن حكمة الله تقتضي توفر التبليغ، بطرق سريعة التواصل، وحتى تقوم الحجة وأداء أمانة التبليغ، سيتوفر ما يوصل البلاغ بما يهيئه الله فهو سبحانه مسبب الأسباب، فقد بلغ النبي سليمان الدعوة بواسطة الهدهد، وصار وسيطاً بالرسالة، هذا في المعهود، والله مسبب الأسباب.
هذه نظرة، والجزيرة التي أكرم أهلها ببيته العظيم المبارك، وهم في فقر من الأرض في حكم المنسيين، قد بعث الله فيها خاتم أنبيائه، ورفع سبحانه، قَدْرهم واختصهم بتبليغ هذا الدين بقوله جل وعلام: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف 44)، ولا يحمل المسؤولية في القوم إلا خيارهم، ويفاخر بهم الأمم عليه الصلاة والسلام يوم القيامة بما امتازوا به: النفر المحجلين من آثار الوضوء، علامة فارقة في مشهد من المشاهد العظيمة. وهذا برهان على التأصيل.
فكان من المجد دين في جزيرة العرب الإمامان: محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب، فقد قام بالدعوة الشيخ محمد وسخر الله له من يحمي دعوته، لينشرها هو وتلاميذه في الآخرين، الإمام محمد بن سعود الذي ذكر المؤرخ عثمان بن بشر: أن الشيخ محمد لما جاء مهاجراً بدينه، إلى مقر الإمام محمد بن سعود بالدرعية، اجتهد قرابته وأهله في بشارته بخير ساقه الله إليه، فيه سعادة الدنيا والآخرة، وهذا الخير له ولذريته من بعده، فيجب أن تبادر بالذهاب إليه بنفسك، ولا تدعه يجئ إليك، وهذا من احترام الدين والدعوة وحملتها.
فاستجاب وكان لقاء مباركا.. وقد قامت الدولة على قاعدة دينية سلفية، على منهج السلف الصالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وطهرت الجزيرة أولاً بهذا المنهج الذي قاعدة البناء فيه: كتاب الله وسنة رسوله، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب، وهذه بشارة بالمهمة العظيمة، ولئن كدّر المسيرة ما أضعف النشاط، بمطات وتحالف قوى أوهنت المسيرة ولم تمتها، فما هي إلا كبوة أمكن تلافيها بحكمة ودراية: الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي مكنه الله بإعادة الدولة من جديد، ابتداء من 5 شوال عام 1319هـ حيث دخل الرياض، لينتزع الأمر من ولاتها، فكان يوما مشهوداً عندما رفع النداء بأن المُلك لله، ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ليبدأ مسيرته التي أعانه الله بتخطي العقبات الكثيرة، واحدة بعد الأخرى، ليبني صرحاً جديداً، في وحدة وطنية سُداها ولحمتها المنهج الشرعي السلفي، لأن ذلك المطلب الشرعي، الذي تعاهد عليه مع رجاله الذين عاضدوه في المسيرة.
وقد ركزت جامعة الإمام التي هي ثمرة من أعماله في ندوتها عن السلفية وأنها منهج شرعي ومطلب وطني في أحد المحاور على الشبهات حول تطبيق المنهج السلفي في المملكة والرد عليها، وعلى المفاهيم الخاطئة حيال المنهج السلفي وغيرها من المحاور، وهذا ما حرص عليه الملك عبدالعزيز، في تبيانه منذ استقرت الأمور وبعدها بدأ يقابل كبار الحجاج في مكة المكرمة، في خطبة فيهم أيام في منهج إعلامي رصد بعضه في كتاب: المصحف والسيف.
ثم ما يجب الانتباه له: الإشارة إلى الركائز التي قامت عليها الدعوة السلفية التي تبناها آل سعود منذ تعاهد الإمامان على نصرتها في عام 1157هـ، وحتى الآن، وتاصيلها عقيدة وعملا ومنهج حياة.
فقد ترسموا خُطى رسول الله في تبليغ الرسالة، بالدعوة اللسانية وبإرسال الخطابات التي توضح المنهج الذي قامت عليه لتطهير العبادات التي هي حق لله من دعاء وذبح وتوكل واستغاثة لا يقدر عليه إلا الله من الأموات، لأن الله غنى عن الشركاء كما في الحديث القدسي أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه.
ومن مهمات الرسائل نفى الشبهات والأكاذيب، التي تبرأ منها، وقال: سبحانك يارب هذا بهتان عظيم، وقد أفردت جامعة الإمام في جمعها لتراث الشيخ جزء كاملا هو المجلد الخامس في الرد على تلك الإفتراءات.
ومن كان دون ذلك من العامة فيبلغون بالتذكير والنصائح المرققة للقلوب في المساجد والتجمعات.
أما الطبقة العلمية فقد اختط الشيخ طريقة تبرئ الذمة، ببعث علماء للحوار مع أندادهم في العلم للنقاش والعطاء والإجابة على ما يطرح من شبهات، فتكون الإجابة بما يزيل الالتباس بالدليل، حتى تحصل القناعة لأن العامة تبعاً للعلماء، وتوثق الإجابة بالدليل الشرعي، لأنه المرجع للجميع، وكانت أول تجربة للحوار مع علماء المسجد الحرام، إذ اجتمع مفتي الأحناف ومفتي الشافعية ومجموعة من العلماء، مع وفد الدرعية العلمي ومنهم الشيخ عبدالعزيز الحصين، والشيخ حمد بن معمر وغيرهم، وقد حقق هذا الحوار نتيجة طبيعية، صدر بها رسالة صغيرة طبعت فيما بعد، وقد يحصل شبهة من مواطنين لاستجلاء الحقيقةة لذات العلم البعيدين عن الحكام وعرض الأمر عليهم، كما حصل من الشيخ عبدالقادر التلمساني الذي كان تاجراً في جبره، ومتخرجاً من كلية أصول الدين بالأزهر، وكان أشعرياً وقرأ كتبهم كله، وكان الشيخ أحمد بن عيسى مجاوراً بمكة، ويزاول التجارة في معاملته مع التلمساني، فقال له يوماً: يا شيخ أحمد لقد عاملت الناس أربعين عاما، فما وجدت أحسن وأوفى للعهد مِنْك يا وهابي، فإما أن يكون عندكم في دينكم ما يخنونه وإلا أن ما يُلصق بكم من خصومكم السياسيين، فأحب مناظرتك في كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فاحضر جميع كتبه ورسائله، ولا تترك منها شيئاً حتى رسائله للناس.
فأحضر له ذلك وجلس عنده في جدة 18 يوماً يتباحثان، وتدور بينهما الأسئلة والشيخ أحمد يجيب بهدوء ورغبة في الوصول إلى الصواب.. المختوم بخاتم الدعوة إلى دين الله الحق، المؤيد بالقرآن والسنة وقد تمت القناعة من الشيخ التلمساني بأن السلفية، ومفهومها الحقيقي أسلم وأمكن بالدليل الثابت، فترك مذهب الأشاعرة، الذي سبقه إلى تركه مؤسسة «أبو الحسن الأشعري رحمه الله».
وكان هذا الحوار في حدود عام 1310هـ تقريبا، والجزيرة العربية لم يصلها الملك عبدالعزيز لاسترداد الملك إلا في 5 شوال عام 1319هـ عندما دخل الرياض.. وقد تبع التلمساني كبار أهل جدة وبعض العلماء في مكة في اعتناق السلفية، وما ذلك إلا أن مخاطبة العقول النيرة، بالكلمة الطيبة التي يدعمها الدليل هي أقرب للاستجابة لدين الله الحق.
وهذا ما حرص عليه الملك عبدالعزيز - رحمه الله- منذ قام لاسترداد الملك وهو ما درج عليه في تليفه لكبار الحجاج في مكة بعدما دخلها، ومع ضيوف الرحمن الوافدي، للحج والزيارة، ثم درج عليه أبناؤه من بعده في أحاديثهم مع علماء المسلمين عن مهمتهم وعن ما قامت الدولة عليه، فهم يخضعون في جميع أعمالهم: لأمر الله المستجد من القرآن، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم المستمد من الوحي الثاني وهو السنة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر 6).
وكان رحمه الله في كلماته مع كبار ضيوف الرحمن، يحثهم على جمع الكلمة، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، فإن فيهما الفوز والعصمة، وأن الملك هو الله سبحانه، وقد حاربه العثمانيون، ولكن نصره عليهم (ضمن كلمته عن عقيدتنا في عام 1347هـ أيام الحج) وأنه مستعد أن يتعاون في سبيل هذا كواحد منكم وأترك.
وبرهن عندما أسست هيئة الأمم المتحدة في المشاركة والتأييد وقدم دستور بلاده نسخة من القرآن الكريم (كما قال خير الدين الزركلي في كتابه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز) بل هو دستور البلاد في العقيدة والأحكام الشرعية، وتطبيق أحكام الشريعة، وفي المحاكم القضائية، حتى الآن.
وكانت أحاديثه وأعماله لا تخرج عن المذهب السلفي، وكان اهتمامه في أحاديثه تنصب بالدعوة السلفية صادقاً من قلبه، يقول خير الدين الزركلي: إن أحد مرافقي الملك رحمه الله قال له: إنه يقوم في ثلث الليل الأخير يصلي ويدعو ربه، وإذا كان في الحرم بمكة كان قبل الفجر يتعلق بأستار الكعبة، ويدخل يديه تحت كسوتها، ويدعو بقوله: «اللهم إن كنت تعلم أن هذا الملك فيه خير للإسلام والمسلمين فيسره لي ولأولادي من بعدي، وإن كنت تعلم أنه فيه شرٌّ وضرر على الإسلام والمسلمين فانزعه منا إنك سميع الدعاء»، وهذا ما يصدر إلا من قلب صادق ومحتسب.
وقد علم نيته الصادقة فيسره له وفتح عليه خزائن الأرض، التي نفع الله بها الإسلام والمسلمين وعمارة الحرمين والانفاق فيما يخدم ضيوف الرحمن فكان كلما قام منهم سيد اهتم بالمشروعات الخيرية التي تؤمن راحة الحجاج والوافدين، إذ كل وافد إلى المملكة حاجاً أو معتمراً أو زائراً أو عاملاً يتأثر بالسلفية هنا وحسن التعامل والتفقه في الدين، لينقل ذلك لبلده متأثراً ومطبقاً وهذا من نعمة الله على هذه البلاد وأهله أن كانوا قدوة في الخير، ودعاة بعملهم إلى السلفية التي تعنى الاهتمام بشرع الله من مصدريه: الكتاب والسنة، وأن جعلهم تقضى على أيديهم حوائج المسلمين.