لا تنطوي هذه الكلمة على مطلب سياسي ولا على مطلب اقتصادي، بل ولا على مطلب من المطالب التي قد يختلف عليها الناس، ولكنها تتحدث عن أمر أكبر خطراً وأبعد أثراً من كثير من المطالب، إنها تتحدث عن مطلب حياة، أي ما تقوم به الحياة وتُحفظ وهو أمر طالت معاناة الناس من غيابه وطال ابتلاؤهم بسبب هذا الغياب ومع مرور عشرات السنين فإن المعاناة من ذلك تزيد ولا تنقص وتتسع دائرتها ولا تضيق، على أن هذا المطلب ليس مما يتعذر تحقيقه أو يتعسر وهو معالجة ما تزدحم به بل ما تختنق به المدن الكبيرة في المملكة - وأولها الرياض - من السيارات وما تسببه من تلوث الهواء بما تطلقه من غازات مركبات النتروجين والكبريت والكلور وغيرها من الغازات الضارة المؤثرة على صحة الإنسان بل والنبات والحيوان، ولو قُدِّر لفرد أن يُقبل على مدينة الرياض عند طلوع الشمس فسيرى بوضوح ما يظلل المدينة من غمامة مكوناتها هذه الغازات، يتعرض لها كل فرد في ليله ونهاره وسيرى المباني والأشجار طوال نهاره مكسوة بغلالة من هذه الغازات تحجب صفاء الرؤية.
يخرج العامل إلى عمله والطالب إلى مدرسته أو جامعته والمريض إلى طبيبه أو مستشفاه وذوو الحاجات الأخرى إلى حاجاتهم وبينهم وبين مكان حاجتهم مسافة لا تزيد على بضعة كيلو مترات فيقضي في قطع هذه المسافة ساعة أو أكثر في رواحه ومثل ذلك في عودته، تمتلئ خلال ذلك رئتاه ومسالك التنفس عنده بذلك الهواء (النقي جداً) وتتوتر ملكات الإحساس لديه من الازدحام المرهق ومن توقي ما قد يقع عليه من خطر بسبب ذلك الاختناق الشديد, ونتيجة ذلك ضياع وقت يجب أن يُستثمر وضرر بصحة يجب أن تُصان وإنفاق مال في غير مكان إنفاق، فإذا أضيف إلى ذلك ما يسببه هذا التلوث من آثار ضارة وقد تكون مميتة في المدى القريب أو البعيد وما يؤدي إليه هذا الاختناق من فواجع الحوادث التي لا يخلو منها ليل أو نهار أدركنا مدى جسامة المسؤولية في التهاون أو التأجيل لما يجب ويتحتم أن يهيئ لهذه المعضلة من حلول تدخل كلها من أبواب الممكن لا من ثقب المستحيل.
كاتب هذه السطور لا يملك إحصاءات مقارنة لمدى انتشار بعض الأمراض وإن كان مما يُظَن بل مما يجب أن يكون لدى الجهات المعنية وهي المستشفيات الأولى مثل التخصصي ومستشفى الحرس الوطني والمستشفى الجامعي ومدينة الملك عبد العزيز وكليات الطب ومستشفى القوات المسلحة ومستشفى الأمن العام وكل هذه المؤسسات يجب أن تكون قلاعا مدافعة فمن المؤكد والواجب أن تكون لديها هذه المتابعة المقارِنة، على أن الفرد العادي لا يجد تعذراً في ملاحظة انتشار الإصابة ببعض الأمراض الخطيرة مثل السرطان -أجار الله الجميع منه- ولا يجد متغيراً واضحاً جدًّا في المجتمع أكثر وأقوى من التلوث بهذه الغازات، فقبل أربعين عاماً قد تمرَّ الشهور دون أن يسمع الفرد بإصابة قريب أو جار أو صديق بهذا المرض، على حين أنه في الوقت الحاضر قلّ أن تمرَّ بضعة أسابيع أو أقل دون أن يسمع أن واحدا أو أكثر قد أصيب ممن هم في دائرة من يألف أو يعرف.
هذه الأحداث ناقوس خطر كبير كان يجب أن تُعدَّ لمقاومته كل وسائل دفعه ورفعه، ومع ذلك فإنه لم يُتخذ من الاجراءت ما يتناسب أدنى قدر من التناسب مع هذا الخطر المخيف، إننا لا نزال نستورد -بحمد الله- مئات الآلاف من السيارات في كل عام ومنحنى زيادة السيارات في كل مدينة يمثله خط مستقيم ذو ميل موجب ويمثل رغبة المستوردين -هداهم الله- في زيادة ما يستوردون، ويزيد من حدة وشدة الخطر والضرر في المملكة عاملان هما : الحرارة والجفاف، فالجفاف يُبقي هذه الغازات عالقة في الهواء لعدم وجود مطر وتزيد الحرارة المرتفعة في أغلب أيام العام طاقة حركة جزيئات هذه الغازات.
في النصف الأول من القرن الماضي كانت مدينة لندن إحدى المدن الأوربية الأكثر تلوثاً، وفي عام 1952 ظلـَّلَ المدينة مرتفع ضغط كبير فمات بسبب التلوث وركود الهواء خلق كثير فماذا صنع القوم هناك؟.... لقد صدر في فترة وجيزة أحسبها أياماً قانون عرف لديهم باسم قانون الهواء النظيف، وفي أقل من عامين صارت مدينة لندن من أكثر المدن الصناعية نقاء هواء بما اتُخذ من إجراءات ووسائل فعالة وقَتْ من خطر مميت، وفي هذا الصدد لايجد المرء حرجاً أن يذكر أنه منذ ثلاثة أعوام أو أكثر بدأ العمل في حفر أنفاق وإقامة جسور في مدينة الرياض ولم يتم إكمال شارع واحد فقط إلى هذا الوقت، على أن ذلك إذا كان مما يفيد في التخفيف من حدة المشكلة من جانب واحد وهو الازدحام وهو تخفيف نسبي فإنه ليس حلاً دائماً ولا مؤقتاً في المملكة، فزيادة الأنفاق والجسور إذا كانت حلاً أو بعض حل في أي بلد فإنها لن تكون كذلك في المملكة أو في البلاد المماثلة لها مثل دول الخليج، ذلك أن المملكة وتلك الدول تنفرد بميزة - إذا كانت المشاكل والمصايب تُعَدُّ من المزايا - هذه الميزة هي تَفَرُّدُ هذه الدول بكون السيارة هي الوسيلة الوحيدة لديها للانتقال، ويزيد من حدة هذه المشكلة القدرة النسبية على الشراء لدى بعض المواطنين وميل بعضهم - أو مباهاتهم - بتجديد سياراتهم كل عام، ومن المؤكد أنه لو عُمل إحصاء لعدد السيارات في عدة بلاد منها دول الخليج مقارناً عدد سكان هذه البلاد بعدد السيارات فيها لجئنا الأعلى نسبة بين دول العالم للسبب الرئيس السابق ذكره.
في عام 1966 كنت في لندن فتناولت من مكتب الاستقبال في الفندق الذي أقمت فيه كتاباً صغير الحجم يعرِّفُ بمعالم المدينة فكان مما وقفت عليه ودُهشت منه ذكره أن عدد من يركب قطارات الأنفاق في اليوم الواحد ثمانية ملايين وأربعمائة ألف راكب وسكان لندن في ذلك الوقت لا يزيد وقد لا يبلغ ستة ملايين أي أنه قريب من سكان الرياض في الوقت الحاضر، ومن الواضح أن سبب زيادة عدد من يستعمل قطارات الأنفاق على عدد السكان هو أن الفرد الواحد قد يستخدم القطار عدة مرات في اليوم الواحد, تُرى لو وُجدت هذه الوسيلة في الرياض وما يقاربها من مدن المملكة هل ستبقى معاناة الناس ويطول ما يتعرضون له من أخطار؟...
منذ بضعة أعوام قامت منظمة الصحة العالمية بدراسة مقدار تلوث الهواء في ألف ومائة مدينة موزعة على واحد وتسعين قطراً في العالم مقارنة ما فيها من تلوث بالقدر الممكن تحمله وهو عشرون مايكرو غرام في كل متر مكعب من الهواء، وإذا كان ما يهمنا من هذه الدراسة هو ما يعني المملكة فقد دلت هذه الدراسة على أن التلوث في الخمس المدن التي اختارتها وهي على الترتيب ينبع والدمام وجدة ومكة والهفوف والرياض قد بلغت خمس مئة في المائة من القدر الممكن تحمله في مدينة ينبع وهي الأدنى تلوثاً وبلغت ثمانمائة في المائة في كل من مدينة الهفوف بالإحساء ومدينة الرياض.
إن إيجاد وسيلة نقل عام ذات كفاءة مناسبة وإقامة مواقف انتظار مبردة في صيفٍ تصل الحرارة فيه إلى خمسين درجة أو أكثر لعدة شهور من العام ومدفأة بالشتاء وتحديد خط سير الناقلات ليس أمراً متعذراً بل ليس متعسراً، وقد وجدت هذه الوسائل في بلاد عربية كثيرة لعل من أولها مصر منذ أكثر من ستين عاماً ودخل قطار الأنفاق إلى مصر منذ عشرين عاماً أو نحوها فهل يجوز أن نعجز ونحن الأكثر سعة والأقل عدداً عن الشيء اليسير الذي حققه الآخرون؟... وإذا كانت مسؤولية الدولة في غفلتها عن هذا الأمر وتهاونها في معالجته ليست من مواضع الخلاف فهل يمكن أن تنكر مسؤولية المجتمع عن ذلك؟.... وإذا اعتذر مسؤولٌ بأعباء وظيفته وثقل مسؤوليته مما قد يُشغله أو يُنسيه - وذلك عذر ظاهر تهافته - فما هو عذر المجتمع وأفراده ملايين إذا لم تنصرف قلة قليلة لمتابعة هموم المجتمع وقضاياه ، يتابعونها بتنبيه المسؤول إذا غفل - أو تغافل - ويذكرونه إذا نسي ويؤازرونه بالقول الصادق والرأي المصيب؟....
إن المرء ليحزن ألا يجد تفسيراً لذلك التقصير بل القصور إلا في قول المتنبي:
ولم أر في عيبوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام
فهل نأمل سرعة معالجة وجوه النقص الكثيرة وهذا أهمها وأخطرها وأن يتم ذلك في وقت قريب، ونثق أن ذلك ممكن من باب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم.