في شهر مارس-آذار من عام 1997، وأثناء عمله رئيساً لجمهورية التشيك، قَدَّم فاتسلاف هافيل - الذي توفي في الثامن عشر من ديسمبر-كانون الأول 2011 - التقييم التالي للتقاطع بين الكتابة للمسرح والسياسة في حياته.
براغ - قرأت مؤخراً مقالة بعنوان «سياسة كالمسرح»، وهي مقالة نقدية لكل ما حاولت أن أقوم به في السياسة. يزعم الكاتب أن السياسة لا تتسع لعالم متكلف مثل عالم المسرح. لا شك أن بعض أفكاري في الأشهر الأولى من ولايتي كرئيس أظهرت من النزعة المسرحية قدراً أعظم مما أظهرته من البصيرة السياسية. ولكن الكاتب أخطأ في مسألة أساسية: فقد أساء فهم معنى المسرح بقدر ما أساء فهم أحد الأبعاد الحاسمة في السياسة.
ذات يوم قال أرسطو إن كل دراما أو مأساة تشتمل على بداية، ووسط، ونهاية، فضلاً عن أحداث سابقة أولى تتلوها أحداث سابقة. والواقع أن العالم، عندما نختبره في بيئة منظمة، يشتمل على البعد الدرامي المتأصل الذي تحدث عنه أرسطو، والمسرح يشكل تعبيراً عن رغبتنا في التوصل إلى طريقة مختصرة لاستيعاب هذا العنصر الأساسي. فالمسرحية التي لا تدوم أكثر من ساعتين تقدم أو يفترض أن تقدم صورة للعالم ومحاولة للتعبير عن هذه الصورة بالكلمات.
هناك تعريف للسياسة يزعم أنها أداة لقيادة ورعاية وإدارة الشؤون العامة. ومن الواضح أن رعاية الشؤون العامة تعني الاهتمام بالإنسانية والعالم، وهو ما يتطلب الاعتراف بالوعي الذاتي الإنساني في العالم. والحق أنني لا أرى كيف قد يتسنى لأي سياسي أن يحقق هذا الإنجاز من دون الاعتراف بالدراما كجانب أصيل من العالم كما يراه البشر، وبالتالي كأداة أساسية للتواصل بين البشر.
إن السياسة من دون بداية ووسط ونهاية، ومن دون عرض تفسيري وتطهير، ومن دون تسلسل متدرج وإيحاءات، ومن دون التسامي الذي ينتج الدراما الحقيقية التي يؤديها أناس حقيقيون في شهادة عن العالم، هي في اعتقادي سياسة خصية مبتورة الساق وبلا أسنان.
أنا لست ناجحاً دوماً في ممارسة ما أبشر به على أرض الواقع، ولكنني أعمل من أجل سياسة تدرك بشكل واضح أنها لا بد وأن تهتم بما يأتي في مرتبة أولى من الأهمية ثم ما يتلوه، السياسة التي تعترف بأن كل الأمور تحدث وفقاً لتسلسل ونظام سليمين. وهي أولاً وقبل شيء السياسة التي تدرك أن المواطنين -من دون تنظير، كما أفعل الآن- يعرفون تماماً ما إذا كانت التصرفات السياسية تتخذ اتجاهاً معيناً ولها بنية واضحة ومنطق في الزمان والمكان، أو ما إذا كانت تفتقر إلى هذه الصفات ولا تشكل سوى استجابات عشوائية للظروف.
على مسرح محدود، وخلال فترة زمنية محدودة، وبشخصيات وإكسسوارات محدودة، يقول المسرح شيئاً عن العالم، وعن التاريخ، وعن الوجود الإنساني. وهو يستكشف العالم حتى يتسنى له التأثير عليه. والمسرح يشكل دوماً رمزاً واختصارا. وفي المسرح تُضغَط الثروة والتعقيد المصاحب للوجود في مدونة مبسطة تحاول استخراج الجوهر الأساسي من مادة الكون ونقله إلى الجمهور. وهذا في واقع الأمر ما تفعله المخلوقات المفكرة في كل يوم. فالمسرح ببساطة واحد من الأساليب العديدة للتعبير عن قدرة الإنسان على استيعاب وفهم الترتيب المستتر للأمور.
ويمتلك المسرح أيضاً قدرة خاصة على التلميح إلى -ونقل- معان متعددة. فالحركة المعروضة على المسرح تبث دوماً رسالة أوسع مدى، من دون التعبير عنها بالكلمات بالضرورة. فهو عبارة عن جزء من الحياة منظم على نحو يريد أن يقول شيئاً عن الحياة ككل. ولا تقل الطبيعة الجمعية للتجربة المسرحية أهمية: فالمسرح يفترض دوماً وجود مجتمع - الممثلين والجمهور - يتقاسم نفس الخبرة.
وكل هذه الصفات لها ما يماثلها في عالم السياسة. ذات يوم قال لي أحد الأصدقاء إن السياسة تشكل «مجموع كل الأشياء مركزة». فهي تشمل القانون، والاقتصاد، والفلسفة، وعلم النفس. إن السياسة مسرح أيضاً بلا جدال - فالمسرح عبارة عن نظام من الرموز التي تخاطبنا كمجموع، وكأفراد، وكأعضاء في مجتمع واحد، ويشهد من خلال حدث معين يتجسد فيه على أحداث الحياة العظيمة والعالم، فيشحذ مخيلتنا وحواسنا. ولا أستطيع أن أتخيل سياسة ناجحة من دون وعي بكل هذه الأمور.
إن الرموز التي توظفها السياسة مسرحية بطبيعتها. فالأناشيد الوطنية والأعلام والزينات والأعياد لا تعني الكثير في حد ذاتها، ولكن المعاني التي تثيرها تشكل أدوات تعين المجتمع على إدراك ذاته، أدوات لخلق الوعي بالهوية الاجتماعية والاستمرارية. والسياسة محملة أيضاً بالرموز في جوانب أخرى أقل وضوحا. فعندما زار الرئيس الألماني براغ، بعد فترة بسيطة من اندلاع ثورتنا المخملية، في الخامس عشر من مارس/آذار 1990 (الذكرى السنوية الحادية والخمسين لاحتلال النازي للأراضي التشيكية)، لم يضطر إلى الإطالة في الحديث، لأن مجرد قيامه بالزيارة في مثل هذا اليوم بالتحديد كان كافياً لتعبئة مجلدات. وكان الأمر مثيراً للشكوك بنفس القدر عندما وصل الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني في الذكرى السنوية لإبرام اتفاقية ميونيخ.
إن الأفعال السياسة الرمزية تشبه المسرح. فهي أيضاً تشتمل على التلميح، وتعدد المعاني، والإيحاء. وهي أيضاً تصور واقعاً مختصرا، فتخلق ارتباطاً أساسياً من دون أن يكون صريحاً واضحا. وهي أيضاً تتم وفقاً لإطار طقوسي مقبول عالمياً وصامد أمام اختبار الزمن.
حتى أن المتشككين لا يستطيعون أن ينكروا أحد الجوانب المسرحية في السياسة: اعتماد السياسة على وسائل الإعلام. فالعديد من الساسة قد يصيبهم العجز الكامل في غياب مدربين محترفين يعلمونهم تقنيات الأداء أمام الكاميرات. وكل الساسة، بما في ذلك هؤلاء الذين يسخرون من المسرح بوصفه مملكة متكلفة زائدة عن اللزوم ولا مكان لها في عالم السياسة، يتحولون من دون قصد إلى ممثلين أو مؤلفين ومخرجين مسرحيين أو فنانين استعراضيين.
والواقع أن الدور المهم الذي يلعبه الوعي المسرحي في السياسة يشكل سلاحاً ذا حدين. فهؤلاء الذين يمتلكون هذا الوعي قادرون على تحريك المجتمع وحمله على القيام بأفعال عظيمة وتغذية ثقافة الديمقراطية، والشجاعة المدنية، وحس المسؤولية. وبوسع هذا الصنف من الناس أن يحرك أيضاً أسوأ الغرائز والعواطف، فيدفع الجماهير إلى التعصب ويقود المجتمعات إلى الجحيم. وأظن أننا نتذكر جميعاً المؤتمرات النازية الضخمة، ومسيرات المشاعل، والخطب التحريضية النارية التي ألقاها هتلر وجوبلز، وتقديس الأساطير الألمانية. ولا أظن أننا قد نجد إساءة أكثر وحشية من هذا الجانب المسرحي من السياسة. واليوم -حتى في أوروبا- يستخدم الحكام أدوات مسرحية لإثارة نوع من النعرة القومية العمياء التي تفضي إلى الحروب، والتطهير العرقي، ومعسكرات الاعتقال، والإبادة الجماعية.
أين الحدود إذن بين الاحترام المشروع للهوية والرموز الوطنية، والموسيقى الشيطانية التي يعزفها الزمارون المتلونون، ومشعوذو السحر الأسود، وخبراء التنويم المغناطيسي؟ وأين تنتهي الخطب العاطفية الحماسية وتبدأ الغوغائية؟ وكيف يتسنى لنا أن نحدد النقطة التي يتحول بعدها التعبير عن الحاجة إلى الخبرة الجماعية وطقوس التكامل والاندماج إلى تلاعب شرير واعتداء على حرية الإنسان؟
هنا نستطيع أن نتبين الفارق الهائل بين المسرح كفن والبعد المسرحي للسياسة. فالأداء المسرحي المجنون الذي تقدمه مجموعة من المتعصبين يشكل جزءاً من التعددية الثقافية، ويساعد بالتالي في توسيع نطاق الحرية من دون أن يشكل تهديداً لأي شخص. أما الأداء المجنون من قِبَل ساسة متعصبين فقد يغرق الملايين من البشر في كارثة لا نهاية لها.
وهذا يعني أن الدراما السياسية لا تتطلب وجود جمهور من المتفرجين، بل عالم من الممثلين. ففي عالم المسرح تُمَس ضمائرنا، ولكن المسؤولية تنتهي عندما يسدل الستار. أما مسرح السياسة فإن يفرض علينا جميعاً مطالب دائمة، باعتبارنا مؤلفين مسرحيين، وممثلين، ومتفرجين - وعلى حسنا السليم، واعتدالنا، ومسؤوليتنا، وذوقنا الطيب، وضميرنا.
- خاص بـ (الجزيرة)