وللناس فيما يعشقون مذاهب. هل ينطبق نفس الشيء على السياسيين؟. ربما لايعلم الكثيرون أن إيران كانت سنية المذهب قبل الحكم الصفوي في القرن السادس عشر الميلادي ومصر شيعية المذهب حتى نهاية الحكم الفاطمي، والأزهر الشريف أسس أيام كانت مصر شيعية. انتقال إيران من التسنن إلى التشيع ومصر من التشيع إلى التسنن تم برغبة سياسية. لم يحصل استفتاء شعبي في إيران ولا في مصر على تغيير المذهب، بل حصل الأمر هكذا وبرغبة سلطوية من فوق. الناس على أديان ملوكهم ، هكذا يقول المثل. الحكام عادة يأخذون من داخل العقيدة الواحدة ما يخدم مصالحهم السياسية ولا يخرجهم من الملة نفسها. الملك البريطاني هنري الثامن فصل الكنيسة البريطانية عن التبعية لبابا روما الكاثوليكي وشجع انتشار البروتستانتية لكي يستطيع الطلاق والزواج على مزاجه لأن الكاثوليكية تمنع ذلك والبروتستانتية تسمح. لكن تاريخ هنري الشخصي السري يقول إنه لم يكن يوما واحدا في حياته بروتستانتي المعتقد بل بقي كاثوليكيا في الخفاء حتى وفاته.
عبر التاريخ كانت تكتيكات السياسيين تستفيد من إشغال الناس ببعضهم في أمور فرعية لصرفهم عن الانشغال بالتفاهم المتبادل حول أوضاعهم المعيشية. دائما كانت النتائج الحتمية للتلاعب السياسي بالمذاهب هي دفع الفواتير الباهظة لاحقا بالحروب الأهلية والتفكك أوفقدان المناعة الوطنية وسهولة السقوط أمام أي غزو خارجي. ذاق العالم المسيحي الويلات من تسييس المذاهب حتى أدرك عقلاؤه خطورة اللعب بالألغام المذهبية المتفجرة. بعد أن هلك مئات الملايين من البشر ودمرت ممالك ودول أصبح من المحرمات في الغرب أن يدخل السياسيون المذاهب الدينية في التلاعب بعقول وعواطف الجماهير. لم يعد من المسموح هناك أن يرفع أحد لواء الكاثوليكية ضد البروتستانتية أوالعكس لدخول البرلمان أوهزم الخصوم في الانتخابات. من الممكن تأسيس حزب تحت مسمى الحزب المسيحي الديموقراطي أوالليبرالي أوالمحافظ أوالتنازل عن التوصيف الديني بالكامل، لكن يجب ترك التفرعات المذهبية خارج التلاعب بعواطف الجماهير. بؤرة واحدة مازالت موجودة في العالم الغربي المسيحي تلعب بالأوراق القديمة هي البروتستانتية السياسية في شمال إيرلندا (بلفاست) والكاثوليكية السياسية في دبلن (إيرلندا الجنوبية) وكلتاهما إيرلنديتان. في هذه البؤرة المذهبية داخل الاتحاد الأوروبي مازال فتيل الحرب الأهلية قابلا للاشتعال. الدويلات المسوخ التي ولدت من تفكك يوغوسلافيا مسألة أخرى لأنها صراعات عقائدية وعرقية ومذهبية في آن واحد، والتاريخ القديم في منطقة البلقان مازال جاهزا للانفجار حتى يتغلب التفاهم العقلاني على ألاعيب الانتهازية السياسية.
في العالم الإسلامي، ومنه العرب على وجه الخصوص هناك أمور تثير الشكوك. ما أعتقده هوأن السياسيين العرب المخضرمين بدأوا ينجحون في جذب الدفة إلى اتجاههم وتغيير ما يسمى بالربيع العربي نحومصالحهم القديمة. ما بدأ كمحاولات جماهيرية نحوبناء مستقبل وطني أفضل يوشك أن يتحول إلى تخندقات مذهبية. في مصر وهي الدولة العربية السنية الأكبر هناك مزايدات مذهبية بين الإخوان والسلفيين والمسيحيين أخذت تحرف الجماهير إلى الاتجاهات التي يريدها السياسيون. نفس الشيء يحصل في اليمن والعراق وليبيا وسوف يحصل بشكل أوضح في سوريا. في دول مجلس التعاون الخليجي تلوح مؤشرات واضحة لاصطفاء ما يسمى بالتيار السلفي كهوية مذهبية. أضع كلمة «ما يسمى» بالتيار السلفي لأنه ليس تيارا واحدا واضحا بل تيارات متعددة فيها الوسطي والجهادي والتكفيري وتضم من هومستعد للجلوس مع الصهاينة على موائد المفاوضات في جهة واالتحريض على تكميم أفواه المواطنين وعقولهم في الداخل.
هذا الوضع يشبه من يدخل إلى حلبة سباق وفي جيوبه ثلاث قنابل. القنبلة الأولى هي التترس المذهبي المتبادل داخل نفس الدولة، والثانية هي التحريض المذهبي الذي سوف تستشعره الدول المجاورة، والقنبلة الثالثة هي ما سوف يفهمه العالم كاختيار طوعي للانفصال عنه خلف قناعات مذهبية قد تؤدي إلى تصادم الحضارات.
في مثل هذه الحالة، لوحسبنا الأمور بعقلانية، سوف يخرج العالم العربي والإسلامي بأكمله بأكبر قدر من الخسائر فلا تأخذنا العزة بالإثم.