عندما كنت طالباً في الجامعة، في بدايات اشتغالي على كتابة القصة القصيرة، ونشرها في الصحافة السعودية، كنت قد امتلكت الجرأة بأن أراسل شخصيتين أدبيتين مهمتين، تعزَّزت علاقتي بهما عند صدور مجموعتي القصصية الأولى (ظهيرة لا مشاة لها)، فكانت مفتاحاً لتأصيل العلاقة معهما بشكل متميز، هما القاص والروائي المصري إبراهيم أصلان، والشاعر المغربي محمد بنيس.
هذا الأسبوع كانت صدمتي مضاعفة برحيل العم إبراهيم، بعد أن قابلته لأول مرة في مهرجان الجنادرية قبل عقدين من السنوات أو أقل، وكانت المفاجأة أن شاغبني بأنه كان يتصور أنني كبير سناً، من خلال الرسائل البريدية، واستمرت علاقتي به كلما زرت القاهرة، أحرص بأن أزوره بجريدة الحياة في شارع أمريكا اللاتينية، وأذكر أنه ظل ينشر قصصاً لي بالجريدة، حتى إن عنوان مراسلة الجريدة لي كان على القاهرة رغم أنني أقيم في الرياض.
لم يكن أصلان ممن ينتج بكثرة، تماماً كما هي إشاراته وإيحاءاته في قصصه القصيرة، فمن يعرفه شخصياً يدرك أنه حتى في علاقاته كان متقشفاً، وفي كلامه وإيماءاته، فكأنما تعلّم من عمله في البرقيات، لسنوات طويلة، حكاية الاختزال، فمن يريد أن يقرأ أجمل الحوارات في النصوص القصصية العربية، سيجد أصلان يملأ روحه ويغنيها بالكلمات الموجزة، وكأنها شفرات ملغزة لكنها موحية.
كم شعرت بالأسى حينما قرأت خبر وفاته في موقع العربية نت، وهم يشيرون في العنوان إلى رحيل القاص والروائي المصري إبراهيم أصلان مؤلف فيلم (الكيت كات)، وكأنما لن يعرفه القارئ إلا من خلال هذا الفيلم، لا من خلال أعماله الرائعة: بحيرة المساء، مالك الحزين، وردية ليل، حكايات فضل الله عثمان، وأخيراً عمله الأخير الذي قرأته قبل عام: حجرتان وصالة، فأدركت أن موهبة أصلان لا تموت، ولا تذبل، ولا تخبو، فمعظم أبناء جيله، جيل الستينيات المصري في فن السرد، أصبحوا يكتبون لأجل إثبات حضورهم، لكن أصلان في عمله الأخير، كان يقول للقارئ، أرأيت حتى حياة عادية جداً، لرجل عجوز وامرأته، يمكن أن تصنع أدباً رفيعاً.
هذا الفنان الكبير، بكل فتنته السردية، اختزلت مواقع كثيرة تعريفه، بفيلم (الكيت كات) وفيلم (عصافير النيل)، وكأنما هي اللعبة التي لا تنتهي، اللعبة التي رواها لي أصلان ذات مساء حزين، وهو يقصّ، بظرافته المعهودة، حكاية اتفاق منتج فيلم (الكيت كات) معه، على مبلغ كان متواضعاً، لكنه كان مقنعاً لأصلان، قبل أن يصدمه الاتفاق مع الممثل محمود عبد العزيز كبطل للفيلم، والمبلغ الكبير الذي يعادل عشرات أضعاف عقد المؤلف، ها هي اللعبة تعود مرة أخرى أبا هشام، وها هم يعرفونك ككاتب فيلم، لا كروائي وقاص لافت، لكن ذلك سيذهب، وستبقى عدسة أصلان المرعبة، تلك التي تلتقط التفاصيل اليومية العابرة، ليبهرنا بأن كل شيء قابل للسرد، شرط أن نحمل عيناً مدربة على الاقتناص!
هكذا حدثني يوماً بحب عن زاويتي (فضاء البصر) التي نشرتها منتصف التسعينيات في جريدة الرياض، وفهمت لماذا كان مأخوذاً ليس بالنص فحسب، بل بالصور الفوتوغرافية، لأنني كنت غالباً ما ألتقط الصور باستخدام عدسة (الكلوز أب)، تلك التي أصطاد بها التفاصيل الصغيرة الغائبة، وهي التفاصيل التي تملأ حياة أبي هشام وتلفت بصره وبصيرته.. رحمك الله أبا هشام وأسكنك فسيح جناته.