يقوم اليوم رئيس مجلس الوزراء الصيني السيد وان جياباو بزيارة رسمية للمملكة، يُجري خلالها مباحثات مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي كان قد قام بأول زيارة له خارج المملكة إلى الصين إثر مبايعته ملكاً للمملكة العربية السعودية، وعن تلك الزيارة التاريخية التي تمت بتاريخ 22-12-1426هـ الموافق 22-1-2006م ولمدة ثلاثة أيام، وكنت ضمن رؤساء التحرير المرافقين لخادم الحرمين الشريفين وقد كتبت آنذاك انطباعاتي عن الزيارة ونشرتها في كتاب صدر لي بعنوان (رحلة ملك) وبمناسبة زيارة الضيف الكبير إلى المملكة أعيد نشر تلك الانطباعات للتذكير بالنتائج المهمة التي تمخضت عنها تلك الزيارة.
فقد كانت الصين هي المحطة الأولى لزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في أول زيارة للملك إلى الخارج بعد مبايعته خادماً للحرمين الشريفين وملكاً للمملكة العربية السعودية. وقد تزامنت هذه الزيارة والصينيون على أبواب الاحتفال بدخول عامهم الجديد، فيما كانت المملكة توشك أن تحتفل هي الأخرى بالعام الهجري الجديد. وكان الوفد الكبير الذي رافق الملك عبد الله بن عبد العزيز من أمراء ووزراء يمثل قطاعات ووزارات مهمة، بمعنى أن هؤلاء المسؤولين يغطون كل المجالات المستهدف أن تتعاون المملكة مع الصينيين فيها، وإلى جانب ذلك فقد سبق وصول خادم الحرمين الشريفين إلى الصين وفد تجاري واقتصادي يمثل القطاع السعودي الخاص، حيث أجرى مع نظرائه مباحثات بهدف الاتفاق على صيغة مناسبة للتعاون بين الطرفين، وفتح المجال أمام مشروعات تجارية وصناعية مشتركة بين القطاعات التجارية والصناعية هنا وهناك.
لقد كانت هذه الزيارة رحلة عمل..
ومباحثات متواصلة..
الخبراء في الجانبين يسعون إلى تقريب وجهات النظر حول ما هو مطروح للنقاش، بهدف التوصل إلى اتفاق يقبل به الجانبان.
وكانت هناك رغبة مشتركة لتسريع الاتفاق، والتوجه بثقة نحو طاولة التوقيع على الاتفاقيات كأهم إنجاز لرحلة الملك عبد الله بن عبد العزيز.
وفي فترة زمنية لم تتجاوز اليومين، أمكن التوصل إلى اتفاق على كل شيء مما كان مدرجاً في جدول زيارة ضيف الصين الكبير.
كان الملك عبد الله وإلى جانبه الرئيس الصيني السيد هوجينتاو يقفان خلف الطاولة التي شهدت في قاعة الشعب الكبرى التوقيع على الاتفاقيات الثنائية، فيما كان أعضاء الوفد السعودي من أمراء ووزراء أو خبراء يشكلون نصف دائرة تقريباً وقد أحاطوا بالمكان الذي جرت فيه مراسم التواقيع، بينما اصطف رؤساء تحرير الصحف السعوديون في خط مستقيم في مواجهة الملك والرئيس لمتابعة المشهد التاريخي المثير.
ومن وزير إلى آخر في الجانبين، كان يتقدم المعنيون ليوقعوا ما تم الاتفاق عليه بمباركة من الملك عبد الله والرئيس الصيني هوجينتاو وتصفيق من الحضور، لتنهى المراسم بتبادل الوزراء الوثائق ومن ثم مصافحة الملك والرئيس.
***
شهدت زيارة الملك عبد الله - لمن تابعها - مباحثات مهمة بين الجانبين رأسها الملك والرئيس، ويقول أحد الأعضاء إنها اتسمت بالصراحة والوضوح والرغبة المشتركة في أن تكون العلاقات الثنائية على أعلى مستوى، وهو ما انتهى إليه وخلص منه المجتمعون واتفقوا عليه.
في اليوم الثاني من زيارة خادم الحرمين الشريفين، كانت هناك لقاءات أخرى مكثفة أبرزها لقاؤه برئيس مجلس الدولة الصيني السيد وان جياو باو ومقابلته لرئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني السيد وو يانغ قوه، وكلها تركزت على المستقبل المنتظر للعلاقات السعودية الصينية القادمة في ضوء ما اتفق عليه في هذه الزيارة.
وكان من الواضح أن الزيارة الملكية للصين لم تقتصر على الجانب الاقتصادي والتبادل التجاري بين الدولتين على أهميته، وإنما كان هناك تنسيق في السياسات أيضاً، بالنظر إلى أهمية الصين كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، فضلاً عن وزنها الاقتصادي والعسكري وأهميتها كلاعب مهم في التوازنات الدولية التي تطرح حين نشوء قضايا يكون لصوت الصين أهميته في التأثير على مسارها.
ولم تخل مباحثات الزعيمين - بكل تأكيد - من تناول جاد ومعمق للقضايا التي تهم منطقتنا وبينها الصراع العربي الإسرائيلي، فقضية فلسطين-تحديداً- والوضع في كل من العراق وسورية ولبنان، وكذلك اتجاه إيران لتصنيع أسلحة الدمار الشامل، لا بد أن اتفاقاً في الرؤية وتطابقاً في وجهات النظر قد تم حول ما كان مدار البحث بالنسبة إلى هذه الموضوعات أو غيرها مما تناولته مباحثات الملك والرئيس.
***
المسلمون في الصين والحج إلى الديار المقدسة
الملك عبدالله قال للزعماء الصينيين وهو يعلم أنها الدولة الأولى بين مستوردي النفط السعودي: إن المملكة ليست دولة نفط فقط؛ وإنما هي قبل ذلك دولة الحرمين الشريفين، وكان احترام الرئيس الصيني لوجهة نظر خادم الحرمين الشريفين كبيراً ولافتاً حين قال: ونحن في الصين لدينا عدد من المسلمين الصينيين الذين يقصدون الأراضي السعودية المقدسة سنوياً لأداء فريضة الحج، ومعروف أن أكثر من عشرين مليوناً من سكان الصين يدينون بالدين الإسلامي.
***
زار الملك عبدالله بن عبدالعزيز الصين قبل سبع سنوات، وكان -آنذاك- ولياً للعهد، وفي هذه الزيارة يزورها وهو ملك، بصلاحيات أكبر، وفي مرحلة شهدت العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية تطوراً منذ تبادل السفراء قبل نحو ستة عشر عاماً.
هناك مصادفات كثيرة رافقت هذه الزيارة، وقد كان بعضها بتخطيط وبعضها الآخر مصادفة ليس إلاّ، فالرئيس الصيني الآن غير الرئيس السابق عندما زارها الملك عبدالله لأول مرة، وكذلك ملك المملكة العربية السعودية هو الآن عبدالله بن عبدالعزيز بعد وفاة الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- والزيارة تتصادف مع انضمام الصين والمملكة معاً لمنظمة التجارة الدولية، وهناك السنة الجديدة لكل من المملكة والصين فقد تصادف قرب إطلالة المناسبتين مع بدء الزيارة.
والصين- بالمناسبة- هي الدولة الأولى استيراداً للنفط السعودي، والحجم التجاري بين المملكة والصين زاد خلال العام الماضي مقارنة بالفترة المماثلة من العام الذي يسبقه بنسبة 23 في المئة متجاوزاً بذلك معدل سرعة التجارة الخارجية الصينية مع البلدان الأجنبية، وقد بلغ التبادل التجاري أكثر من أربعة عشر مليار دولار بزيادة تبلغ نسبتها نحو60 في المئة وهي نسبة عالية مهيأة للنمو والارتفاع.
ومثلما تبحث قيادة المملكة عن توسيع فرص التبادل التجاري والصناعي والاقتصادي بعمومه مع من لنا مصلحة في التعاون معهم، فالصين لها مصلحة بأن تتبادل التعاون معنا في مجالات الثقافة والصحة والعلوم والتقنية والاتصالات، فضلاً عن المجالات الصناعية وفي طليعتها صناعة البتروكيماويات، وغير ذلك مما يندرج ضمن مصلحة الدولتين.
ولا ننسى أن المملكة والصين يجمعهما تنظيم مشترك، الهدف منه التنسيق والتشاور في السياسات الاقتصادية والتجارية، وهذا التنظيم يتمثل في جمعية الصداقة الصينية السعودية التي أطلق الإذن بإنشائها باتفاق بين البلدين في وقت مبكر، وتحديداً بعد تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين، وكان للجمعية حضور جيد خلال زيارة الملك عبدالله للصين، مثلما كان لها إسهامات سابقة في تعزيز أوثق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين.
الملاحظ على السياسة الصينية في السنوات الأخيرة انفتاحها على العالم اقتصادياً وسياسياً، وانصرافها إلى تنمية اقتصادياتها وتطوير صناعاتها، والتوجه نحو العالم - شرقه وغربه - بأفكار قادتها إلى اندماجها ومشاركتها وتعاونها مع كل الخطوات التي يتعافى الاقتصاد وينمو في الدول عند تطبيقها والأخذ بها.
***
ودولة كالصين وهي تواجه انفجاراً سكانياً كبيراً لا تستطيع أن تستمر في معزل أو عزلة عن العالم التزاماً بأيدلوجيتها الشيوعية، أو أن تنكفئ على نفسها مثلما كانت عليه إبّان قيام الحركة الشيوعية بالثورة التي مكنتها من النجاح في قيادة إدارة الدولة في جزء كبير من الأرض بعد بقاء جزيرة تايوان إلى اليوم بعيدة عن سيطرة الشيوعية عليها.
لهذا فقد نجحت الصين الشعبية بفضل مراجعتها لكثير من قوانينها وتوجهاتها وثقافاتها بأن تعيد جزيرة هونج كونج من الاستعمار الإنجليزي إلى الوطن الأم بالحوار والتفاهم دون أن تراق نقطة دم واحدة، وهي تحاول منذ بعض الوقت وبسيناريو آخر أن تتوصل مع جزيرة تايوان إلى اتفاق يقود إلى ضمها إلى الصين، وهذا وإن احتاج إلى بعض الوقت إلا أنه لا بديل ولا خيار عنه.
وهذا يعني - فيما يعنيه - أن الصين القوية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً مؤهلة في المستقبل بعد انضمام تايوان إليها لتكون قوة ضاربة على مستوى العالم، وربما هدد نموها المتسارع باختراق هذا الاحتكار والتفوق اللذين تتمتعان بهما بعض الدول الكبرى دون غيرها.
حضارة عريقة وقوة اقتصادية كبرى
منذ انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الشيوعية، وتسابق الدول للانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، كان من الواضح أنَّ دولاً في آسيا -وتحديداً الصين والهند وماليزيا -، تتجه لهيكلة اقتصادها، والدخول منافساً قوياً للدول الغربية التي تمثل القوة الضاربة في اقتصاديات العالم، وما الصعود القوي الذي ينبئ بأخذ دول الشرق لمواقع متقدمة في منظومة الدول الصناعية في العالم، إلا بمثابة التأكيد على أن هذه الدول الآسيوية قد اختارت الطريق الأمثل للوصول إلى هذا المستوى المتقدم.
والملك عبدالله حين بدأ بالصين، فهو قد اختار أن تكون شراكته، ومستقبل بلاده، مع دولة اقتصادية بحجم القوة الضاربة في الصين، لأن ذلك سوف يساعد عند الاحتكاك بها والتعاون معها على إثراء التنمية في بلادنا، بما يؤهلها لاحقاً في توظيف إمكاناتها الطبيعية والبشرية في خدمة التنمية، وبناء مستقبل بلادنا وفق المنظور الذي يمثل هاجس الرجل الكبير وأعني به عبدالله بن عبدالعزيز.
فالصين ذات الكثافة السكانية العالية التي يزيد عدد مواطنيها على المليار وثلاثمائة مليون نسمة كأكثر الدول في العالم سكاناً، بنمو سنوي يزيد على الواحد بالمئة، على أرض تزيد مساحتها على مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، ويدافع عنها ويحميها جيش قوي يبلغ تعداده أكثر من مليوني رجل، هي الصين بحضارتها المتقدمة وفي فلاسفتها الكبار (لاوتسي وكونفوشيوش ومنشيوس) وبما تتميز به منذ القدم من فنون الرسم والنحت والشعر، فضلاً عن أنها الدولة التي ابتكرت للعالم الطباعة لأول مرة، بمعنى أن خادم الحرمين الشريفين حين قصدها فهو قد تعمد أن يقيم أقوى العلاقات مع دولة يُعتمد عليها ويُطمأن على أنَّ مستقبل العلاقات معها مُجْدٍ ومفيد.
والصين بقفزتها العظيمة إلى الأمام، ودخولها ضمن الدول المنتجة للقنبلة الذرية منذ أربعين عاماً، وتخليها عن كثير من الأفكار والثقافات القديمة، إلى جانب تعافيها من تداعيات الثورة الثقافية التي قادها الزعيم الصيني الأشهر ماو، وكادت تلحق بها أكبر كارثة اقتصادية، لولا أنها تداركت الأمر في اللحظات القاتلة، تبدو الصين وهي بهذه الصورة العملاقة، محل الاهتمام والمراقبة من جميع دول العالم وليس من المملكة فقط، ولهذا فإن اختيار الملك عبدالله في بداية عهده لهذه الدولة زائراً لها لتوسيع آفاق التعاون لم يأتِ من فراغ، ولم يكن لعامل المصادفة دور أو دخل بالترتيب الجميل لهذه الزيارة أو بما تمخضت عنها من نتائج.
***
ولو لم تكن الصين بهذا الحضور الاقتصادي والسياسي والعسكري، ما كانت الولايات المتحدة لتقوم منذ عهد الرئيس نيكسون في العام 1972م بخطوات متسارعة لتحسين علاقاتها معها، والتخلي عن مبدأ الاحتواء الذي كانت تنتهجه تجاه هذه الدولة، بدءاً من زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق لها، مروراً بالاعتراف رسمياً بالصين الشعبية باعتبارها الحكومة الوحيدة، وانتهاءً بقبولها في عضوية الأمم المتحدة بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية بديلاً عن تايوان، كما أن الصين ما كنت لتصل إلى ما وصلت إليه لولا الإصلاحات الكبيرة التي تمت في أعقاب وفاة ماوتسي تونج، حيث جاء استخدام تجارب الغرب وأساليبه في الإدارة على حساب التعليمات الماركسية التي يتحدث الصينيون الآن بالقول إنها أخرت عملية التحديث والتطور التي تشهدها البلاد الآن، ولعل هذه المعطيات هي التي أوحت للملك عبدالله ليقوم بالزيارة الثانية له لهذا البلد العظيم، بهدف مواكبة النمو الذي تمر به خطوط التنمية والتعرف عليه والإفادة منه، من خلال اتفاقيات وقّع بعضها خلال هذه الزيارة، وقد تقود إلى مزيد من الفرص الثنائية المفيدة للبلدين في المستقبل القريب.
وإن زيارة الملك عبدالله للصين الشعبية التي تحتل عشرين بالمئة من مساحة آسيا، ليست زيارة لدولة تقع في شرق آسيا على ساحل المحيط الهادئ كأي دولة وحسب، ولكنها زيارة ملكية لأكبر دول العالم في عدد السكان على أساس أن عشرين بالمئة من سكان الكرة الأرضية يعيشون بالصين، إلى جانب أنها ثالث دولة في المساحة، إذ لا يفوقها مساحة سوى روسيا وكندا، فكيف بنا وهي كذلك إذا علمنا أن هذه الدولة تتمتع بأعرق الحضارات في العالم باعتبار أن الصينيين أول من طوّر البوصلة وورق الكتابة والخزف الصيني والملابس الحريرية وحرفة الرسم والنحت وغيرها مما يظهره الصينيون ضمن تحيزهم لحضارتهم التي يقولون: إنها تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة سنة.
ولعل انتهاج الصين لسياسة الانفتاح والإصلاح، هو ما أوحى للملك عبدالله للإسراع في القيام بهذه الزيارة، والاتفاق مع قادتها في تسريع التوجه المتفق عليه للتعاون بين الدولتين في كل المجالات الاقتصادية والسياسية، وفي جميع ما يقود إلى رفع سقف هذا التعاون، وصولاً إلى ما يحقق الرفاهية والمصلحة المشتركة بين بلدينا.
الدولة الأولى في العالم استيراداً لنفطنا
والعلاقة العربية - الصينية قديمة جداً، وهي تسبق بكثير زيارة الرحالة العربي ابن بطوطة للصين، وما يهمنا الحديث عنه؛ ليتناغم كلامنا مع أهمية زيارة خادم الحرمين الشريفين للصين، أن نركز في القول على أن للمملكة مصلحة في النمو الاقتصادي الذي تشهده الصين؛ لأنه يوفر مع تصاعده سوقاً لا يشبع من النفط السعودي، الذي هو اليوم يعدّ السوق الأكبر نسبة إلى ما تصدره المملكة من بترولها إلى دول العالم، وهذا النمو يخدمنا أيضاً في بناء قاعدة سليمة للتعاون صناعياً وتجارياً بين بلدينا، دون أن نخاف من التقلبات التي قد تعصف به أو تعيده إلى بداياته.
وإذا صحّ ما قيل - منسوباً إلى الهيئات الدولية المعنية - عن أن الصين تحتل المرتبة الثالثة بين دول العالم طلباً للبترول في العام الماضي، وأنها ثاني دولة في العالم تستهلك البترول، متجاوزة بذلك دولة صناعية كبرى هي اليابان، أدركنا أهمية أن يقوم الملك عبدالله بزيارتها، وتوقيع اتفاقيات تضمن لشعبي البلدين المصلحة الكبرى التي يتوخاها خادم الحرمين الشريفين لبلدينا وشعبينا، بما لا مجال معه للقول بكلام لا يعطي الزيارة كل هذه الأهمية التي تحدثنا عنها اعتماداً على هذه المعلومات، وعلى ما تم التوصل إليه بين الدولتين من اتفاقيات.
ولا أحد سيفرط في مصلحته أو يبدي تعاوناً لا يخدمه، وفي الحالة السعودية - الصينية هناك مصلحة مشتركة، وفائدة للطرفين في الشراكة التي دعا إليها الملك عبدالله بن عبدالعزيز؛ فالمملكة تختزن أراضيها أكبر احتياطيّ من البترول، وهي الدولة الأولى المصدرة للنفط إلى العالم، يقابلها أن الصين هي الدولة الأولى في العالم استيراداً لنفطنا، وهي مؤهلة لزيادة حصتها وفقاً للتقديرات التي ترشحها لتصاعد استهلاكها ليصل إلى الضعف خلال العشرين سنة القادمة، وهي زيادة، إن صحت تقديرات الهيئات الدولية المختصة، فإن الإنتاج السعودي من النفط، على ضخامته، لن يكون قادراًً على تلبية احتياج الصين التي تتطور اقتصادياً بما لا يجعل هناك مجالاً للخوف أو للبحث عن أسواق عالمية تستورد إنتاجنا من البترول، في ضوء ما قاله الرئيس الأمريكي من أن الولايات المتحدة الأمريكية ستخفض استيرادها من بترول الشرق الأوسط بما نسبته 75 في المائة خلال العشرين سنة القادمة.
وإذا أدركنا أن المملكة هي رابع دولة تملك احتياطياً من الغاز بعد روسيا وإيران وقطر، أصبح بمقدورنا القول إن تنوّع مجالات التعاون فيما بين الدولتين سوف يصبّ في مصلحة كل من المملكة والصين، بما يعزز من تفاؤلنا بأن عهداً جديداً من تبادل المنافع قد بدأ، وأن زيارة رأس الدولة السعودية للصين سوف تقطف نتائجها بالتتابع، وسريعاً؛ لتكرس بذلك منهجاً غير مسبوق في توجيه سياستنا الاقتصادية باختيار مناطق جديدة ومواقع أخرى لتضاف إلى ما هو قائم؛ وبذلك نوسع ونسرع في خطوات التنمية التي يقودها عبدالله بن عبدالعزيز بحماس كبير.
لقد صاحب العلاقات السعودية - الصينية شيء من الجفاء خلال فترة الغلو في تطبيق النظام الشيوعي في الصين، مع أن هذه العلاقة بدأت باعتراف المملكة بالصين قبل ستين عاماً، وكان يمكن لها أن تؤسس لأرضية صالحة للعلاقات المتوخاة، لولا أن النظام الماركسي آنذاك نأى بنفسه عن المجتمع الدولي من خلال أفكاره وأسلوب تعامله مع شعبه ومع الآخرين؛ مما أفسد هذا التوجّه، وحوّله إلى قطيعة ما كان للعلاقة الدبلوماسية أن تعود وأن تتدرج صعوداً ونجاحاً بأكثر مما رُسم وخطط لها، لولا المتغيرات الداخلية بعد وفاة ماو، وسقوط ما سمّي بعد ذلك بعصابة الأربعة، وبزيارة الملك عبدالله ومباحثاته مع القادة الصينيين سوف تتعزز أكثر، وبوادرها لمسناها من حفاوة الاستقبال، وما رمزت إليه تلك الاتفاقيات التي وقعها الطرفان.
ضيف استثنائي واستقبال شعبي حافل..
الملك عبدالله بن عبدالعزيز بزيارته التاريخية للصين الشعبية، كان ضيفاً غير عادي على شعب وحكومة الصين، وكان وجوده بين الصينيين - يبدو لمن كان يتابع الزيارة - مثار اهتمام الناس هناك، ليس فقط لأن هناك مصالح مشتركة تجمع بين بلدَيْنا، ولا لأنَّ العلاقات السعودية الصينية تتميز بالدفء والحرارة والارتياح من الجانبين، وإنما لأن خادم الحرمين الشريفين سبقته إلى الصين مكانته وسمعته كملك، وترافقت مع زيارته كثافة المعلومات التي قرؤوها عن المملكة وعن ضيفهم الكبير.
إنَّ سحر الصين ومفاتنها لا يستطيع زائرها أن يتعرَّف عليه من خلال هذه القفزات الصناعية والزراعية التي سيشاهدها، أو من خلال الطبيعة التي أغنتها وغنّت لها، ولا من ظاهرة الدراجات التي تكاد بأمواجها وأعدادها أن تظهر تميّزها المثير لمن يزورها، بل إنَّ هذا السحر سوف يلمسه الزائر حتى من ترحيب المواطنين ومن التعاملات التي يحسنونها بإتقان مع القادمين لعمل أو لسياحة في بلادهم.
ولا شك أن الهدف من الزيارة قد تحقق، وأن من ينظر بتفاؤل إلى مستقبلها فهو على حق، ولا شيء أمامي يعيدني إلى التفكير بماضي هذه العلاقة، حيث أمور جوهرية كثيرة قد تغيرت وتبدلت إلى ما هو أجمل وأفضل في الصين، وهو ما تراهن عليه المملكة بقيادة الملك عبدالله لتمتين هذه العلاقة وتجسيرها، بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في هذا الطريق، ولها الآن أن تطمئن بأنها سوف تكسب رهان هذا التوجه في نهاية المشوار.
هذه انطباعات سريعة مما لاحظته أو توقفت عنده في هذه الزيارة وفي زيارات سابقة، وكنت أعجب من شعب بهذه الكثافة وقد عُزِل عن العالم لسنوات طويلة، أن تكون لديه الإرادة لبناء أوثق العلاقات مع دول لم تكن له أي علاقة في أي مجال معها، ودون أن يتأثر - وهو يقود هذا التغيير - بالمواقف السلبية الماضية التي أدار لها ظهره، مظهراً قدرته على التغير بما يستجيب للمستجدات، وبما يعطي لمستقبله زخماً من النجاحات الموعود بها.
ولا أعتقد أن الصينيين كانوا في حاجة إلى إعادة تأهيل للقبول بالحياة الجديدة، إذ إن ما رأيناه يظهر أنهم كانوا على شغف وتطلع شديدين لإنجاز ما يتحقق على الأرض حالياً، وأنهم شديدو الحرص على إتقان الدور المطلوب لإنجاح هذا التغيير المتزامن مع المتغيرات في العالم.
ولا أخفيكم، أن الصين - لمن يراقب خطواتها عن قرب - تمر الآن في عصرها الذهبي، وهي جديرة بذلك، وقادرة على أن تعود مثلما كانت دولة قوية ومؤثرة، وبخاصة أن الوضع الحالي يسمح لها بأن تمتلك مجموعة من الأرقام القياسية في الصناعة والابتكارات الجديدة، التي بإمكانها أن تصدِّرها إلى الغرب، كما كانت تفعل ذلك قبل أن تصطاد قوتها ونفوذها بعض القوانين والأنظمة المثبطة.
***
خاصة وأن مِحَن الحرب وآثارها المدمِّرة قد انتهت ولن تعود، وبالتالي فإنَّ ما يشغل الصينيين هو البناء، وتوفير لقمة العيش، ومساعدة الحكومة لشعبها على توفير الرفاهة والخير والسلام لكل أفراده، وزيارة الملك عبدالله تصبُّ في هذا الاتجاه وتستوحي أهدافها من السياسة الرشيدة للمملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، ومن الترحيب الذي وجده من القيادة الصينية إبان الزيارة التاريخية التي قام بها في أعقاب مبايعته ملكاً للمملكة العربية السعودية.
إن الفرح بالانتصار - كما أتصور - لا يكون بالخروج من معركة حربية هُزِمَ فيها الطرف الآخر، بينما يكون ثمنها دماء الأبرياء في الجانبين مع بقاء التوتر وسوء العلاقات والتسابق على بناء ترسانة من الأسلحة في الجانبين، وإنما الانتصار الحقيقي يأتي حين تُعمَّق الصلة بين الدول ويتم من خلالها وبواسطتها تبادل المصالح، مثلما يفعل عبدالله بن عبدالعزيز، الذي سيذكره التاريخ ويخلد اسمه على أنه ملك مصلح ومخلص ومحب للسلام، وراغب أن ينمي ويزيد من الفرص التي توفر الخير لشعبه وللشعوب الأخرى.
وأحسب أن زيارة الملك عبد الله للصين تعد قفزة كبيرة إلى الأمام، بحسب ما هو مُتوقَّع من نتائج منها، وسوف تثبت مع الأيام الرؤية السليمة لخادم الحرمين الشريفين في رسم سياسته وتوجيهه لبوصلتها نحو الأهداف التي تعمِّق مصلحة مواطنيه وتبقيهم دائماً في المكان الذي يستحقونه والذي يحرص على أن يحققه لهم.
ولا يخامرني أدنى شك أن الصين الجديدة بدءاً من القرن الحادي والعشرين سوف تنافس الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا كقوة اقتصادية ضاربة؛ ذلك لأنها تمتلك مقومات دخول هذه المنافسة بقوة، وبخاصة مع انشغال أمريكا ودول أوروبا بما يجري في العالم من صراعات وخلافات.
انظروا إلى الساحة الصينية التي تعد أكبر ساحة عامة على الأرض مثلاً، وقد تابعها العالم أثناء مظاهرة الطلبة بسبب ما خلفته من نتائج مأساوية، فقد أصبحت اليوم مكاناً متميزاً يتابع العالم ما يجري فيها من احتفالات ومعارض للزهور، وهذا هو الفرق بين الصين عندما كانت بلا علاقات دبلوماسية مع المملكة ومع دول كثيرة في العالم، وبينها الآن عندما يزورها الملك عبدالله وبينها وبين بلاده أقوى وأمتن العلاقات الأخوية الصادقة.
المملكة والصين.. بناة حضارة وورثة ماض مجيد
إن القطار الذي يقوده عبدالله بن عبدالعزيز متجهاً نحو دول العالم لفتح قنوات من التعاون معها في كل المجالات، سوف يُبقي المملكة في دائرة اهتمام العالم؛ بحثاً عن فرص للتعاون معها، وبالتالي تكون الخيارات أمام المملكة كثيرة ومتنوِّعة ومفيدة، بما يسمح لبلادنا بأن تفاضل بين كل العروض ومن غير أن تضطرها محدودية الخيارات إلى القبول بالأمر الواقع، وهو ما كان سيصير لو لم يمارس الملك عبدالله مهارته وخبرته وعلاقاته بزعماء العالم في إنجاز ما تمّ إنجازه حتى الآن.
يكفي للتدليل على أن هناك بيئة صالحة للتعاون الصيني السعودي المشترك، أن حجم التبادل التجاري بين المملكة والصين قد زاد في عام 2005م بما يصل إلى ستين بالمائة مقارنة بالعام 2004م، وأن الخبراء يرشحونه بعد زيارة الملك وتوقيع الاتفاقيات إلى صعود بنسب عالية، وذلك اعتماداً على النمو الاقتصادي المتعافي في الصين، الذي يبحث عن فرص كتلك التي هيأتها له الاتفاقيات التي تمّ توقيعها أثناء زيارة الملك.
والسوق السعودي مطلوب الاستثمار فيه من الصين وغير الصين؛ ربما لأن الحماية والمصداقية في التعامل ومقومات النجاح في المملكة هي سبب هذا التسابق والتنافس على الفرص المتاحة أمام كبريات الشركات العالمية، ولا بد أن من يقرأ هذه السطور سوف يتذكَّر أن المملكة قد اتفقت مع الصين على إعطائها حق التنقيب عن الغاز الطبيعي وإنتاجه في شمال الربع الخالي، بعد أن فازت في المنافسة إثر فتح مظاريف العروض المقدَّمة من الشركات العالمية المتنافسة على المشروع، وهو ما يُستشَف منه أن التعاون الصيني السعودي انطلق منذ الزيارة الأولى للملك عبدالله، وأنه يتعزّز الآن وينمو ويكبر بعد زيارة خادم الحرمين الشريفين الثانية إلى الصين.
وفي جانب آخر، فقد أشار التقرير السنوي الصادر عن هيئة الطاقة العالمية إلى أن الصين ربما تكون الآن قد تجاوزت اليابان في استهلاك البترول، لتكون بذلك أكبر مستهلك للبترول الخام على مستوى العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ وصل استهلاكها إلى ما يزيد على عشرة بالمائة من إجمالي حجم الاستهلاك العالمي، وهو ما يعني أن الصين أصبحت المشترية الأولى للطاقة الدولية في قارة آسيا وفقاً للتقرير المشار إليه، وبذلك فإن التركيز على التعاون والشراكة مع دولة بهذا الحجم وبخاصة أنها تحتل المركز الأول بين الدول المشترية لبترول المملكة، لا بد وأن يكون قراراً إستراتيجياً صحيحاً عندما تبناه خادم الحرمين الشريفين وسعى إلى إعطائه هذا الزخم الكبير من اهتمامه الشخصي.
والملك في زيارته السابقة للصين - كما هو في هذه الزيارة - لم يتحفظ في إبداء مشاعره نحو الصين، فهو يرى أن ما يجمع بين شعب المملكة وشعب الصين العظيم لهو كثير وكثير، وهو من قال آنذاك: (إننا وإياكم بناة حضارة وورثة ماضٍ مجيد، وإن أجدادنا قدَّموا للإنسانية مثل ما قدَّم أجدادكم الكثير مما نفخر ونعتز به)، وهو القائل أيضاً: (كما أثريتم الحضارة والسجل الإنساني بعطاءاتكم العظيمة في ميادين الطباعة وصناعة الورق والبوصلة والعمارة وغيرها، فقد أعطت أمتنا عطاءً سخياً في ميادين: الطب والجبر والرياضيات والكيمياء والعمارة وغيرها). إنه يختصر كل هذا بالقول: (إننا نتطلع إلى زيادة وتيرة التعاون وتمتين أواصر العلاقات الاقتصادية بما يحقق مصالحنا المشتركة) وهو ما نراه اليوم ماثلاً أمام أنظارنا.
التاريخ يسجل صفحة جديدة للعلاقات بين البلدين..
لقد خرج الملك عبدالله من هذه الزيارة بأكبر المكاسب بفضل اقترابه من التفكير الصيني والنظرة الصينية بشأن العلاقة المستقبلية المفترض إقامتها بين بلدينا، فحدد بذلك وببراعة الوجهة الحقيقية لهذه العلاقة بما لا حاجة له بجهد إضافي مستقبلي يتطلب بذله للتعرف على أجوائهم، وبخاصة أن الصين لها مصلحة في علاقة ثنائية مع دولة كالمملكة يقول تاريخها إنها تحترم تعهداتها ومواثيقها وما تبرمه من اتفاقيات مع الآخرين، وهذا باختصار ما ساعد الملك عبدالله على بلوغ أهدافه التي سعى إليها.
لهذا فإن الزيارة التاريخية للملك عبدالله تتكئ على معطيات جوهرية وعلى قناعات مهمة، انطلاقاً من الاطمئنان على أن وضع الصين ضمن قائمة الدول الكبرى المفيد أن تتعاون المملكة معها، هو ما شجّع خادم الحرمين الشريفين بوضعها في خط سيره بل في بداية خط السير هذا وإدراج اهتمامات المملكة في قائمة مباحثاته مع القادة الصينيين.
ولا أضيف جديداً حين أقول إن الصين - وهي الدولة غير المسلمة - تحتضن أراضيها خمسةً وثلاثين ألف مسجد وثلاثةً وأربعين ألف إمام وأربعمائة وثلاثاً وعشرين منظمة إسلامية وتسعةَ معاهدَ إسلامية، وإن مسلميها البالغ عددهم أكثر من عشرين مليون شخص يمارسون شعائرهم الدينية في دولة شيوعية بحرية ودون أي مضايقات وفق ما قِيل لنا خلال الزيارة، وهذه ولا شك أحد المؤثرات التي ربما أن الملك عبدالله وجد فيها ضمن اعتبارات كثيرة ما شجّعه وحفّزه لزيارة الصين وأن يخصها بلفتة لم يعطها لغيرها وهي أن تكون محطته الأولى في هذه الجولة.
وقد أظهرت ردود الفعل عن زيارة خادم الحرمين الشريفين إعلامياً وشعبياً سواء في المملكة أو لدى الصين الكثير مما يُحسب للملك عبدالله ويُقدر له ويُضاف إلى إنجازاته، مع أنه من الخطأ أن يتصور أحدٌ مِنَّا أن الزيارة بنتائجها قد اقتصرت على العلاقات السعودية الصينية وما هو مطلوب لتفعيلها وتطورها، إذ إن الملك عبدالله ما كان له أنْ يُفَوِّتَ فرصة مهمة كهذه دون أن يرمي بكل أوراقه على طاولة المباحثات بشأن القضية الفلسطينية والوضع في الشرق الأوسط والإرهاب العالمي، وكل ما يؤدي إلى السلام والاستقرار في العالم، وأن يحظى في النهاية بالتأييد الصيني للرؤية السعودية بدعمها وتأييدها ومساندتها والوقوف إلى جانبها عن قناعة وإيمان.
إن ما يتطلع إليه خادم الحرمين الشريفين في زيارته للصين - ضمن أمور كثيرة - أن ينقل التقنية الصينية إلى بلادنا، وأن تستفيد المملكة من خبرات وتجارب هذه الدولة الكبرى، وأن يكون تدريب السعوديين وإكسابهم المهارات والقدرات من خلال الاحتكاك بالصينيين من بين ما يشغل تفكير الملك عبدالله باعتباره هاجسه وموضع اهتمامه والأساس الذي لا غنى عن الاعتماد عليه لتحقيق التطلعات التي تحرص القيادة على أن تكون في صميم اهتماماتها وفي إطار ما يقود إلى نمو المملكة ومصلحة الشعب.
والملك عبدالله بهذا إنما يتحدث باسم شعب المملكة العربية السعودية باعتباره ضمير هذا الوطن وفكر هذا الشعب، فقد نَقَلَ وَعَبَّرَ وقال باسم كُلِّ هؤلاء ونيابةً عن كُلِّ هؤلاء بما يفكرون به وبما يتمنونه ويسعون إليه، قال وأوجز في كل لقاءاته ومباحثاته واجتماعاته، وكان بحقٍ بارعاً ومقنعاً بما طرحه على مستضيفيه، فكانت الموافقة على صيغة الاتفاقيات أسرع من الزيارة التي امتدت ليومينِ كاملينِ.
وإن ما تمّ التوصل إليه من اتفاقيات خلال الزيارة بانتظار أن يبدأ التطبيق الفعلي لبنودها سريعاً ودون إبطاء إنما يقود إلى مرحلة جديدة، أعني الانتقال منها إلى أخذ مبادرات جديدة نحو قرارات ومواقف واتفاقيات أخرى تستجيب لما يحقق المصلحة لكل من المملكة والصين، مثلما نادى الملك والرئيس وتمنيا خلال المناسبات التي أُعِدَّتْ للاحتفاء بضيف الصين الكبير.
الزيارة حققت أهدافها الإستراتيجية..
لقد اعتاد قادة الدول في زياراتهم لنظرائهم أن ينهوا مباحثاتهم بإصدار تصريح صحفي أو بيان مشترك يعلن فيه ما تمّ التوصل إليه في جولة المباحثات من نتائج، لكن الملك عبد الله بن عبد العزيز كسر هذا التقليد حين ارتأى ألا يعود من الصين إلى وطنه الغالي إلا وقد تمّ التوقيع على مجموعة من الاتفاقيات للتعاون المستقبلي بين الصين والمملكة وبقية الدول الأخرى التي زارها، وهذا يحسب لخادم الحرمين الشريفين كإنجاز غير مسبوق إذ يتحقق بهذا الحجم والنوع وفي زمن جدّ قصير.
وقبل أن أنهي هذه الانطباعات عن زيارة الملك للصين، أريد أن أعيد إلى الذواكر ما كان قد أعلن من قبل من أن البلدين (المملكة والصين) قد توصلا إلى صيغ للتعاون المشترك، بأن تمّ التوقيع على خمس اتفاقيات تنظم هذا التعاون، وذلك في مجالي النفط والغاز الطبيعي، وقطاع التعدين، وتجنب الازدواج الضريبي على الممتلكات والإيرادات ومنع التسرب الضريبي، وعلى قرض سوف يستخدم لتطوير البنية الأساسية لمدينة إكسو في منطقة شنجان الصينية، وهناك اتفاقية تخصّ مجال التدريب المهني للسعوديين، وأخرى حول التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني بين البلدين، وهذه الاتفاقيات، وهي بين الحكومتين، غير تلك الاتفاقيات التي وقعت بين رجال الأعمال في البلدين.
فالرئيس الصيني وهو يستقبل بفرح هذه النتائج التي تمخضت عنها زيارة الملك عبد الله ترجم موقفه بالقول: أنتم - موجهاً كلامه إلى الملك - صديق معروف ومحترم لدى الشعب الصيني، ولكم يد بيضاء لدفع تطور العلاقات بين الصين والمملكة. وفي هذه الزيارة سيسجل التاريخ صفحة جديدة للعلاقات الصينية - السعودية في القرن الجديد.
والملك عبد الله لم يتمالك هو الآخر مشاعره ولم يكن في مقدوره أن يحتفظ بها أمام هذا الكلام الجميل من الرئيس الصيني؛ فإذا به يسارع إلى الردّ عليه بالقول: إننا نعتز بصداقتنا مع الصين، ونؤكد التزامنا بمبدأ الصين (الواحدة)، وأن ما تشهده الصين من ازدهار اقتصادي شامل هو مبعث تقدير العالم كله وإعجابه.
إن ما يقلق الصين، وهي الدولة الثالثة من حيث القوة العسكرية والأولى من حيث عدد السكان، وما هو متوقع لها أن تكون الأولى اقتصادياً على مستوى العالم خلال هذا القرن، أن ثلاثة أرباع سكانها يعملون في الزراعة في ظل ظروف تشير إلى خطورة المستقبل إذا لم يُعَد النظر في السياسات المتبعة معهم، وبخاصة الضرائب التي لا تُبقي لهم شيئاً من نتاج محاصيلهم.
وفي تقديرنا أن التحول والانفتاح والتوجّه نحو دول العالم الذي طرأ على سياسة الصين، وجعلها الآن في هذا الموقع المتقدم اقتصادياً وتعليمياً وسياسياً وأمنياً وعسكرياً، هو الذي يوحي للمراقبين والمختصين بالتوقعات المتفائلة لمعالجة هذه المعضلة التي بقيت من ترسبات الماضي البغيض جاثمة على صدور الصينيين.
وفي زيارة الملك عبد الله لهذه الدولة العظمى لاحظنا مؤشرات واقعية على ما يقوله المراقبون من أن قضية الزراعة في الصين لن تكون خارج الاهتمام الإصلاحي، وإن تأخر أخذ القرار الحاسم بشأنها؛ نسبة لما تمّ التعامل به في قضايا مختلفة كانت هي الأخرى تؤرق الصين، وتقض مضاجعها قبل أن تمتد يد الإصلاح إليها. ولعل إعفاء المزارعين من الضرائب الذي صدر به قرار من الحكومة بعد عودة خادم الحرمين الشريفين والوفد المرافق له إلى المملكة، يؤكَّد التوجه الصيني نحو إصلاح ما بقي من آثار الأنظمة والقوانين السابقة، وتحديداً ما يخص الشأن الزراعي.
الملك عبد الله - بالمناسبة - لم يفوّت فرصة زيارته للصين دون استقبال الطلاب السعوديين وحثهم على الإسراع في إنجاز بقية متطلبات التخرج في الجامعات والكليات والمعاهد الصينية التي يتلقون تعليمهم فيها، مع كثير من النصائح الأبوية التي اقتضاها الموقف، لكنه في استقباله رجال الأعمال السعوديين الذين سبقوه إلى الصين للاتفاق مع شركاء صينيين على إقامة مشروعات صناعية وتجارية مشتركة، كان الموقف مختلفاً؛ فقد ركز في كلمته لهم على الصدق والإخلاص والشفافية في تعاملاتهم التجارية، مذكراً البنوك، تحديداً، بضرورة الإسهام والمشاركة بما يدعم التنمية في بلادنا، مع عدم إغفال أهمية تشغيل المواطنين في الشركات والمؤسسات والبنوك. وحين استقبل وفد المجتمع المدني السعودي الذي ضمّ عناصر من الجنسين يجيد بعضهم التحدث بطلاقة باللغة الصينية كان سعيداً وهو يستمع منهم إلى ما قاموا به من جهد للتعريف بما لا علم به لدى الصينيين عن المملكة، وإلى الأثر الطيب والانطباع الحسن الذي تركته جهود هؤلاء في الأوساط الصينية.
الكلمات المتبادلة بين خادم الحرمين الشريفين وفخامة الرئيس الصيني
أولاً : كلمة الرئيس الصيني
يا خادم الحرمين الشريفين، باسم الأمة الصينية يسرنا كل السرور أن نستقبلكم في بكين. أولاً باسم حكومة الصين وشعبها أرحب كل الترحيب بكم في هذه الزيارة، أنتم صديق معروف ومحترم لدى الشعب الصيني، ولكم يدٌ بيضاء لدفع تطور العلاقات بين الصين والسعودية. أقدر جهودكم الحميدة. أنتم أول ملك سعودي يزور الصين وهذه الزيارة الخارجية الأولى من نوعها بعد توليكم الحكم. والصين أول محطة في هذه الزيارة وهذا دليل واضح لحرصكم على العلاقات مع الصين.
أقدر هذه المشاعر الطيبة وأنا على قناعة بأن هذه الزيارة المهمة ستعطي دفعة قوية لتطور العلاقات بين بلدينا، وفي هذه الزيارة ستسجل صفحة جديدة للعلاقات الصينية السعودية في القرن الجديد. يسعدني بالغ السعادة أن تتاح لي هذه الفرصة لتبادل وجهات النظر معكم حول القضايا التي تهمنا جميعاً. إنكم ضيف كريم من بعيد فأريد أنْ أَستمعَ إلى آرائكم أولاً فتفضل.
ثانياً : كلمة خادم الحرمين الشريفين
فخامة الرئيس..
أيها الأصدقاء..
أشكرُ فخامتكم وأعضاء حكومتكم وشعبكم العظيم على ما لقيناه من استقبال حارٍ وضيافة شرقية عريقة منذ قدومنا إلى بلدكم، ويسعدني أن أشير إلى أن السنوات التي مضت منذ بداية علاقتنا الدبلوماسية سنة 1990م شهدت الكثير من التعاون في مختلف المجالات، وآمل أن تشهد السنوات القادمة المزيد من التعاون. إننا نعتز بصداقتنا مع الصين ونؤكد التزامنا بمبدأ الصين (الواحدة)، كما نؤكد تقديرنا للدور المهم الذي تلعبه الصين في المنطقة وفي العالم.
إنَّ ما تشهده الصين من ازدهار اقتصادي شامل هو مبعث تقدير العالم كله وإعجابه.
إنني آمل أن تؤدي هذه المباحثات بيننا إلى تعميق أواصر التعاون وإلى الوصول إلى منظور مشترك فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط والقضايا العالمية. ونحن على استعداد لبحث كل ما يطرحه فخامتكم وزملاؤكم من مسائل. وشكراً لكم.
الكلمات المتبادلة بين الملك عبدالله والسيد وان جيا باو
أولاً : كلمة رئيس مجلس الوزراء الصيني
رئيس مجلس الدولة الصيني رحب في كلمته بخادم الحرمين الشريفين في الصين، مشيراً إلى أن هذه الزيارة التي جاءت ضمن أول زيارة رسمية خارجية للملك المفدى بعد توليه مقاليد الحكم في المملكة إنما تعبر عن حرصه البالغ -أيده الله- على تنمية الصداقة والتعاون مع الصين.
وأشار دولته إلى أن العلاقات بين البلدين شهدت منذ إقامتها تطوراً كبيراً في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وأصبحت المملكة العربية السعودية أكبر شريك تجاري للصين في غرب آسيا وشمال إفريقيا، مؤكداً أن زيارة خادم الحرمين الشريفين هذه ستعطي دفعة قوية للعلاقات بين البلدين وستسهم في دفع التعاون المشترك في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وأعرب رئيس مجلس الدولة الصيني عن تقديره العالي للمملكة العربية السعودية على التزامها بمبدأ الصين الواحدة، مؤكداً حرص الصين على تنمية العلاقات مع جميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي في جميع المجالات، وبخاصة المملكة العربية السعودية.
ثانياً : خادم الحرمين الشريفين
أعرب خادم الحرمين الشريفين في كلمته عن شكره لدولة رئيس مجلس الدولة الصيني وأكّد أن العلاقات المتينة بين البلدين مبنية على الصداقة بين الشعبين السعودي والصيني، وقال: (أتمنى أن تقوي هذه الزيارة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وكل ما يهم البلدين). وأضاف يقول: (نحن نحترم الصين والشعب الصيني لأننا نعده من الأصدقاء الأعزاء). وتمنى خادم الحرمين الشريفين في ختام كلمته أن تزداد العلاقات بين البلدين قوة ومتانة عمّا كانت عليه في الماضي.
التوقيع على خمس اتفاقيات بين المملكة والصين
بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وفخامة الرئيس هوجينتاو رئيس جمهورية الصين الشعبية جرى يوم الاثنين 23 من ذي الحجة 1426هـ الموافق 23 يناير 2006م توقيع خمس اتفاقيات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية وذلك بقاعة الشعب الكبرى في بكين. فقد وقع معالي وزير البترول والثروة المعدنية المهندس علي بن إبراهيم النعيمي ومعالي رئيس لجنة التنمية والإصلاح الصيني مهاك هاي على بروتوكول حول التعاون في مجال النفط والغاز الطبيعي وقطاع التعدين.
كما وقع معالي وزير المالية الدكتور إبراهيم بن عبدالعزيز العساف ومعالي نائب وزير التجارة الصيني وي جان قو على محضر الدورة الثالثة للجنة الصينية السعودية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني.
ووقع معالي وزير المالية مع معالي وزير المالية الصيني شي شيلنج على اتفاقية بين البلدين حول تجنب الازدواج الضريبي على الإيرادات والممتلكات ومنع التسرب الضريبي.
كما وقع معالي وزير المالية مع معالي وزير المالية الصيني على اتفاقية قرض سوف يستخدم لتطوير البنية الأساسية لمدينة إكسو بمنطقة شنجان.
ووقع معالي وزير العمل الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي ومعالي وزير التعليم الصيني (تشو يشي) على اتفاقية بين وزارة التعليم الصينية والمؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني للتعاون في مجال التدريب المهني. وعقب التوقيع على الاتفاقيات تبادل أصحاب المعالي الوزراء النسخ الموقعة للاتفاقيات، ثم تشرف أصحاب المعالي الوزراء بالسلام على خادم الحرمين الشريفين وفخامة الرئيس الصيني.