يُخطئ من يظن أن الرئيس السوري بشار الأسد لم يعرض إصلاحات. لقد قدم الكثير منها حتى الآن بالفعل. إلا أنه أعدها بنفسه، وقدمها لنفسه، ولم يحاور أحدا بشأنها، مكتفيا بالحوار مع نفسه.
إنه كمَنْ يغني في الحمّام، لا يُطرب أحدا بصوته، إلا أنه يُطرب نفسه. بل إنه لا يخرج من الحمّام إلا مقتنعا تماما بأنه أم كلثوم زمانه.
وهذا قد يكون شغلا من مشاغل حمّام المنزل، إلا أنه ليس سياسة.
إذا كنت في أزمة، وإذا كان هناك أطرافٌ كثيرون لهذه الأزمة، فخير ما تفعله هو أن تُصغي لهم. لا أن تُصغي إلى مؤسستك الأمنية وحدها. ويكون من الخير أكثر لو أنك لبيت مطالبهم المشتركة، بدلا من أن يقتصر الأمر على الذود عن حياض سلطتك المطلقة بينهم. ولسوف تخرج من عنق الزجاجة لو أنك قدمت دلائل عملية على صدق التنفيذ لتلك المطالب.
ما يفعله الرئيس السوري هو أنه يقترح إصلاحات تحت ضغط التظاهرات التي تعم أرجاء البلاد، من دون أن يعود إلى الأطراف المعنية بهذه التظاهرات. وهذا وضعٌ لا يوفر الحد الأدنى من الثقة المطلوبة للخروج من المأزق. فكائنةٌ ما كانت تلك الإصلاحات، فإنها تظل عديمة القيمة وفارغة المضمون ما لم تشارك فيها كل القوى السياسية والشخصيات الوطنية المعنية. (وكل، يعني الكل، من دون استثناء).
لقد أعدت السلطات السورية في مطلع الأزمة طبخة للحوار الوطني، إلا أنها، وبرغم اختيارها للمتحاورين، لم تَطرب لما سمعت، فآثرت أن تُطرب نفسها بإصلاحات تقترحها على نفسها، وتفرح بها وحدها، وتقدمها كما لو أنها مكرمة من مكرمات السلطة المطلقة نفسها التي يتظاهر الناس من أجل الخلاص منها.
هذا النمط من «الحوار» المصنوع في المطبخ، قد يكون شغلا من مشاغل الحزب القائد، عندما يختار أن يغني لنفسه، إلا أنه ليس سياسة. إنه بعبارة أدق: تياسة. والتياسة قد تفيد في أشياء من قبيل استعراض القوة، إلا أنها لا تني تزيد الطين بلة.
ولا شك لديّ بأن الإصلاحات التي قدمها الرئيس السوري، وهو تحت وطأة الأزمة، أحلى من الغاتو، لو أنه كان قدمها لشعبه قبل اندلاع الأزمة، أو لو أنه قدمها في أسابيعها الأولى. ولكنه إذ يقدمها الآن، فكأني به لم يلاحظ أن للزمن قيمته. كما لم يلاحظ أن للتردد ثمنه. فبدا كل شيء متأخرا، وحتى حلوه مُرّا، لأنه تعمد بدماء الكثير من الدماء التي كان يجب حقنها.
واليوم عندما يعود الرئيس السوري ليلوح باستخدام القبضة الحديدية، فكأني به لم ينتبه إلى أن ما فعله لم ينفع. وفي بيئة طرب ذاتي كهذه، فلا تعجبنّ عندما ترى أن لا أحد من مقربيه قال له، «ماذا تريد يا سيادة الرئيس أن نفعل أكثر مما فعلناه على امتداد الأشهر العشرة الماضية». «هل نضرب الناس بأسحلة كيميائية، مثلا؟ وبعد أن أخرجنا لهم الدبابات والمدرعات، فهل تريد إبادة جماعية، مثلا؟».
ولكني به، كمن يريد أن يفرض على الناس غناءه، وأن يُملي عليهم الغاتو الذي صنعه لهم في دوائر الأمن والمخابرات والحزب القائد، بينما الناس لا يريدون أكثر من خبز حاف للتحرر من تلك الدوائر بالذات.
لقد ضاقوا ذرعا بكل الحلويات المُرّة التي صنعتها لهم هذه السلطة منذ عام 1963 حتى الآن. ولقد ضاقوا ذرعا بالمكرمات التي يقدمها لهم رئيس فوق الحساب وفوق المساءلة. كما ضاقوا ذرعا بهذا التعالي المشؤوم الذي يُجيز للسلطة أن تنظر إلى الناس على أنهم عبيد.
عندما تكون في أزمة، وعندما لا تجد سبيلا للخروج منها، حتى بعد مرور عشرة أشهر، فإن آخر ما تستطيع فعله هو أن تكرر الاسطوانة نفسها، التي غنيتها لهم أول مرة.
الأزمات غالبا ما تتطلب حلولا جذرية، واستعدادا للدخول في منعطفات جادة، وقبولا بالكثير مما لم نحلم القبول به من قبل.
وبدلا من أن يأتي الرئيس بأناس يصفقون له، فقد كان من الحري به أن يأتي بأولئك الذين يصرخون في وجه نظامه، ليسمع منهم، ويلبي مطالبهم، ويكون شفافا وصادقا معهم.
في الظروف العادية، من الطبيعي تماما أن يُصغي الناس لقادتهم. ولكن في الأزمات، وعندما تكون القيادة ذاتها موضع تساؤلات، فليس المطلوب أن يستمع الشعبُ إلى ما يقوله الرئيس. المطلوب أن يستمع الرئيس إلى ما يقوله الشعب.
وبدلا من أن يُلقي الرئيس بخطاب ليصفق له الداخلون معه في الحمّام، فالصحيح هو أن يخرج ليستمع إلى خطابات الطرف الآخر، حتى ولو جاءت من أكثر معارضيه تشدداً.
هكذا فقط، ينفتح السبيل للخروج من الأزمة.
لقد قدم تاريخ السياسة العربية، الخليجية بالذات، بعضا من أمثلة مشرقة ونيّرة. ولا تحتاج إلى أن تذهب أبعد من عُمان لكي يُقال لك كيف.
أما وأن سيادته ما يزال يغني، فهذا قد يكون أي شيء، إلا أنه ليس سياسة.
* كاتب وناشر ورئيس تحرير «المتوسط أونلاين»