تعيش المملكة العربية السعودية فترة تحول هائل وسريع يتمثل في نمو سكاني واقتصادي كبير. ويصطحب هذا النمو تغيير واضح في مدن المملكة الرئيسية وبالذات العاصمة، الرياض، ومعها تغيير في المهام والمسؤوليات والتحديات.
من ضمن هذه التحديات توفير بيئة مناسبة لسكان المدينة. ومن ضمن الوسائل لمعرفة هذه التغيرات والتطورات استخدام النظريات العلمية حول تطور المدن حول العالم. ولعل من أهمها هنا نظرية «أوربان سبراول» لـ»جايمس كانستلر» في كتابه «هوم فروم نوير».
نظرية «الاسترخاء المدني» تنص أن توفير حياة مريحة لأهل المدينة يعتمد على مدى احترام أهلها لمجتمعهم المدني، وهذا الاحترام يزداد كلما اقترب المجتمع من بعضه البعض وتنقص كلما عاش أفراد المجتمع في عزلة، ونرى في مدينة الرياض أن العزلة تزداد يوماً بعد الآخر وعدم احترام المجتمع أصبحت الحالة المسيطرة في المدينة.
فلننظر إلى تصميم المدينة أولاً. تصميم المباني شيء أساسي في المدينة بناءً على نظرية «كانستلر». فالمبنى الذي يكون تصميمه الخارجي مزخرفا وجذابا يرحب بالمشاة، والمبنى غير المزخرف من الخارج يعطي انطباعا أن صاحب هذا المبنى لا يهمه سوى ما يجري داخله، أما خارجه فهو أمر لا يهمه. ومع الأسف فإن أغلب المباني والبيوت في مدينة الرياض ينقصها التميز في التصميم الخارجي، وبالذات مع جدرانها السادة اللون وأسوارها المرتفعة العازلة، ومن هذا نشأت في مدينة الرياض صور في عقول سكانها أن المجتمع لا يبالي عن ما يحدث خارج المباني وأن أصحاب البيوت ذات الأسوار العالية لا يرحبون بأفراد المجتمع ويريدون العزلة عنهم، وهذا يؤثر على الحياة المدنية بشكل أكبر مما يتصوره البعض.
وذكر «كانستلر» أيضاً أن تقسيم الأحياء السكنية بناءً على المستوى المادي يلعب دورا في نظرية «الأوربان سبراول»، حيث إن أفراد الطبقات الأغنى لا يرون مدى صعوبة الحياة للطبقات الأفقر ويعتقدون أن الحياة سهلة، وبهذا تزداد طلباتهم على القصور والسيارات الفاخرة اعتقاداً أن هذا هو «حق» لهم، مما يزيد من أنانيتهم وحبهم للممتلكات المادية. في الرياض، نرى أن هذا التقسيم وارد من حيث أن منطقتي شمال وغرب الرياض تسكنها الطبقات الأغنى ومنطقتي الشرق والجنوب يسكنها أفراد أقل دخلاً، بشكل عام. ونرى أن معظم المراهقين والشباب في المناطق الأغنى يهمهم مدى فخامة بيوتهم وسياراتهم باعتقاد أنها «حق» لهم, لأن من يسكن حولهم لديهم نفس تلك الحياة الفاخرة التي يطلبها الشباب. وحين يحصل الشاب بسهولة على ما يعمل بعض الآخرين لسنين للحصول عليه، فإن هذا بدوره يقتل الشعور بالمسؤولية داخل الشاب وينمي الطمع في الأمور المادية. أضف إلى ذلك وجود عدد من الخدم والسائقين، الذي يؤدي إلى الاتكال على الآخرين، وبالإضافة إلى الحب الجم للمادة فإن هذا ينمي الأنانية في الفرد، ويزرع الفكرة أن المجتمع وجد لخدمته، مما ينقص من شعور الفرد بالمسؤولية تجاه مجتمعه ويشعر أنه هو «أفضل» من غيره بسبب فخامة السيارة التي يقودها أو المنزل الذي يسكنه.
هذا لديه أثر مباشر على الحياة في المدينة. لنتناول المشاكل المرورية في الرياض، على سبيل المثال. مشكلة القيادة تتمثل في عدم احترام الأفراد للأنظمة والقوانين التي وضعت لمصلحة المجتمع. ولكن إذا كان أغلب أفراد المجتمع لا يبالون بالآخرين، كما يوحي تصميم مبانيهم، أو إذا كان الشخص من طبقة «أعلى» عن باقي أفراد المجتمع، كبعض الأغنياء، فلن يكون لديه الدافع في الغالب بأن يهتم بمصلحة المجتمع كامل، مثل الاهتمام بالأنظمة والقوانين فإن كانت القوانين وضعت لمصلحة المجتمع؛ إذاً الاهتمام بالأنظمة والقوانين لا يهم في أعين بعض أفراد المجتمع. ففرد كهذا، مثلاً، لن يجد أي حافز بأن يقف في خط الانتظار عند الإشارات أو عند الدوران ويحاول الدخول بشكل غير نظامي أمام الجميع، حيث إنه في تصوره لنفسه، «أفضل» من غيره. والإنسان الذي يرى أن أهل الحارة أو المدينة لا يهمهم ما يحدث خارج منازلهم أو ممتلكاتهم، لن يهتم بالحفاظ على نظافة شوارع المدينة، ويبيت يرمي القاذورات في الشارع. والأمن، كذلك، لن يكون مهماً بالنسبة لهذا الإنسان، حيث إن الحفاظ على أمن أفراد المجتمع ليس بالأمر المهم، بصفة أن المجتمع وجد لخدمة هذا الشخص.
إذاً، فالمشكلة الرئيسية التي تواجه الرياض، حسب النظريات العلمية حول المدن الحديثة، مثل نظرية «أوربان سبراول» لكانستلر، تتمثل في تغيير في عقلية أفراد المجتمع وتحويلهم من عدم الاكتراث إلى الشعور بالمسؤولية، والتي تبدأ بالتطوير في تصميم المباني والشوارع والاهتمام بالمنزل ثم الحي ثم المدينة، وشعور جميع أفراد المجتمع بمختلف طبقاته أن الحياة ليست «سهلة» ولا يوجد «حق» للشخص إلا ما عمل لنيله؛ فالمجتمع لم يوجد لخدمة الفرد، بل الفرد وجد لخدمة المجتمع.
halmahna@zagmail.gonzaga.edu