الجزء الأول من عنوان هذه المفارقة مقتبس من إحدى خطب الهالك معمر القذافي عميد الرؤساء العرب وملك ملوك إفريقيا وطاغية الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى.
«مين إنتو؟» عبارة استخفاف واحتقار وجهها زعيم إلى شعب ثار على ظلمه ودكتاتوريته وانفراده بالسلطة، لم يكن ليقولها لولا الخيلاء والغطرسة وحق القوة والمشي في الأرض مرحاً، والتمرد على قول الله تعالى {إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً}.
لم تكن المفاجأة في قبول الشعب الليبي التحدي وإثبات الوجود الذي فرضته عليه عبارة «مين إنتو؟»، ولم تكن المفاجأة في موقف الصين هذا العملاق الاقتصادي المحكوم سياسياً بنظام الحزب الواحد ولا مواقف بعض الدول التي خشيت على أنظمتها من ثورات مماثلة، ولكن المفاجأة هي أن دولة مثل روسيا الاتحادية، الوالجة حديثاً إلى ساحة الديمقراطية بعد الحكم السوفييتي، وقفت معه، وأيدته، وساندته، كاشفة حقيقة هذا التناوب على السلطة بين «بوتين» و»ميدفيدف» الذي وإن تمقرط شكلاً فقد بقي دكتاتورياً في المضمون ينتظر ربيعه.
المفارقة أن مَن دعم الثورة ضده هم قلة من العرب الذين خبروا هذا الطاغية عن قرب، وتعرضوا لإرهابه، ومعهم حلف الناتو الذي لم تنس دوله إرهاب القذافي في «لوكربي» وفي دعمه التمرد في إيرلندا الشمالية على بريطانيا وتفجيراته في ألمانيا، والأهم كان الحفاظ على النفط المجاور. «حلف الناتو» يضم في عضويته دول أوروبا الشرقية والولايات المتحدة الأمريكية، ووافق على انضمام تركيا إليه خلال الحرب الباردة عندما كانت دول حلف الناتو تحاول حصار دول «حلف وارسو» المنضوية تحت لوائه الدول الشيوعية قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي تحاذي تركيا بعض دوله، وتسيطر على الممرات المائية التي توصل بينها.
ورغم أنني - والحق يُقال - لا أثق بحلف الناتو ولا بدوله لتاريخهم الاستعماري ودعمهم لإسرائيل قولاً وفعلاً على حساب العرب، إلا أنني أدرك أن تدخله أسهم في إسقاط الليبيين هذا الطاغية، وهذه تحسب لحلف الناتو، كما حُسبت له من قبل وقفته مع البوسنة والهرسك ضد طغيان الصرب وجرائمهم ضد المسلمين، ناهيك عن دور هذا الحلف في تحرير الكويت.
الحيادية والتجرد يفرضان عليّ الاعتراف بهذا الفضل لحلف الناتو، وقراءة التاريخ بما احتواه من مواقف لهذا الحلف ضد القضايا العربية الرئيسية تجعلني أتردد في منحه الوسام، خاصة وقد عودتنا دول حلف الناتو أنها لا تقف مع العرب حكومات أو شعوباً إلا عندما تتأكد أن في ذلك خدمة لمصالحها الاستراتيجية ودعماً لاستمرار سيطرتها غير المباشرة على الفضاء العربي.
المفارقة أن هذا الفضاء العربي أصبح ملبداً بالغيوم، كما أن معظم دول حلف الناتو أصبحت مغرقة بالديون، وما تخفيض التصنيف الائتماني لتسع دول أوروبية، بما فيها فرنسا ثاني أكبر اقتصاد أوروبي، وقد سبقتهم إلى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، إلا دليل على استشراء أزمتهم الاقتصادية.
المشهد التاريخي يفيد بأن الدول التي عانت من الأزمات الاقتصادية غالباً ما تجنبت الدخول في حروب لعدم قدرتها على تمويلها إلا في حالات نادرة جداً عندما رأت أن الحرب هي وسيلتها لتخطي الإفلاس، ولا أحد يتكهن اليوم بما يمكن أن يكون عليه الموقف الأوروبي والأمريكي من بؤر الاضطراب في الوطن العربي.
الشعوب التي ستحتاج لدعم حلف الناتو يبدو أنها في ازدياد، لكن حلف الناتو أصبح هو بحاجة إلى دعم مالي لا تستطيع توفيره تلك الشعوب؛ ما يعني أن عناصر المعادلة المكوّنة للقرار قد تبدلت؛ وبالتالي فإنه إن كان لحماية المدنيين في القانون الدولي وجه واحد فمن المتوقع أن تستغرق الحالة الاقتصادية لدى دول حلف الناتو مبادئهم الإنسانية - على افتراضها - ويصبح شعار حماية المدنيين لديهم الذي طالما رفعوا لواءه «حمال أوجه».
وتفسير ذلك باعتبار كل ما تقدم، وبإسقاطه على ما يجري من تهديد ووعيد متبادل وشد وجذب وتبادل للرسائل فوق الطاولة وتحتها بين دول حلف الناتو وإيران، فإنه يبدو أن لدى دول حلف الناتو مهمة أخرى غير حماية المدنيين العرب، ربما كانت موضوع مفارقة قادمة.
info@almullalaw.com