بعد التقديم للتحولات المرحلية في الممارسات الدعوية والاحتسابية التي تعرضت لها في الحلقة السابقة نستعرض في حلقة اليوم هذه الانتقالات المرحلية واحدة بعد الأخرى.
1- الانتقال أو النكوص من الميادين الخارجية إلى الميدان المحلي شيء خبرناه بما فيه الكفاية على شكل إرهاب وتفجير وتكفير وتفسيق بعد انكفاء التيارات الجهادية في أفغانستان والشيشان ويوغوسلافيا وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحميلها مسؤولية الإرهاب العالمي وتكريه العالم بالمسلمين. بعد احتواء الإرهاب الجسدي والمادي محليا ً بقي الفكر المؤسس له بعافيته وأمواله ومؤسساته وأدبياته، لكن الظرف أصبح يتطلب مظهراً جديداً للداعية، مظهر المتحضر المستعد للحوار، ولكن بشروطه هو لا بشروط الحوار وتبادل الأفكار. هذا الفكر هو الذي حاول استلام مفاتيح مبادرات الحوار الوطني وما زالت أكثر المفاتيح في جيبه.
2- الانتقال من التقشف والزهد إلى المظهر الفائض بالترف والوجاهة الإستعراضية، وهذا شيء نشاهده يوميا ً في مئات الفضائيات. مجرد مقارنة بين المظهر المتواضع لشيوخنا الأفاضل القدماء ممن تخطوا السبعين مع جسامة وقيافة أدعياء الدعوة الفضائيين الجدد يجعل العاقل يتساءل كيف يستطيع الجمهور العريض التصديق أن هؤلاء طلاب علم وليسوا طلاب جاه ومال. قبل أيام سقط واحد من كبارهم لأنه سرق مجهوداً فكرياً لإحدى الكاتبات المحليات، والمتوقع أن يتبعه تدريجياً آخرون.
3- الانتقال من تواضع المبلغ المتسامح المتلطف إلى المحقق المتسلط، ولتغطية هذا الموضوع تكفينا متابعة أخبار من لحق بهم التبديع والتفسيق والتوقيف في الشارع للمساءلة، والنساء المخفورات إلى المراكز بعد فصلهن عن المحارم، وأصحاب الكمبيوترات والجوالات والهويات المصادره والسيارات التي صدمتها الجموس وسدت عليها المنافذ. الأكثر وضوحاًً في هذا المجال هو الاتهامات التي يستعملها بعضهم في الفضائيات بتعميم مطلق وجائر على من يحاول نقاشهم في الأمور الخلافية.
4- الانتقال من التوسع في العلم الشرعي إلى إدعاء الإلمام بكل شؤون الدين والدنيا، وهذا ما تشهد به مؤلفاتهم وكتاباتهم ومحاضراتهم السطحية عن الحداثة والليبرالية والديموقراطية وعن السياحة والبعثات الخارجية، ومحاولتهم نزع الفضيلة والعقلانية ومكارم الأخلاق عن كل فكر وتيار ونهج يحاول تنبيههم إلى قصورهم الفكري والعلمي في تلك المجالات التي تتطلب تخصصات أكاديمية متفرغة لها.
أما النقطة الأخيرة في مسيرة التغيرات في نهج الفكر الدعوي والاحتسابي التقليدي فهي ما خبرناه منذ محاولات التمرد البدائية أيام الإخوان على العقل الانفتاحي والفكر الموحد للجزيرة العربية، عبر جريمة جهيمان في الحرم المكي، وتبني الحركات الجهادية التي صدرناها للخارج ثم ارتدت علينا كإرهاب مدمر ثم التبرؤ منها، وصولاًً إلى رفض الصحون اللاقطة والجوال والبلوتوث والتواصل الشبكي. الحاصل في كل الأحوال هو أنه بعد أن يصبح ما بدّع وكفّر وفسّق واقعاًً لا غنى عنه يصبحون هم من أكثر المستفيدين منه المتربحين من عوائده المالية والمعنوية.
المريح في الموضوع هو أن هذا الفكر سوف يستمر في الممانعة تتبعها الملاينة ثم المسايرة حتى لا يبقى لديه ما يمانع أو يلاين أو يساير فيه. البوادر على ذلك بدأت في تونس ومصر والحبل على الجرار.