لم يدر بخلدي يوماً من الأيام أن مجلس الأمن هو الأداة القادرة على تحقيق العدل في العالم، أو المريدة لتحقيقه، وإن أعلن حين إنشائه بأن ذلك أهم أهدافه. ومسيرته تجاه قضايا أمتنا؛ ولا سيما قضية فلسطين، تدل على أنه أداة في يد الدول القوية تستعملها كيف تشاء.
ولقد عبرت عن رأيي فيه من خلال أبيات وردت في عدد من قصائدي بمناسبات متعددة. من ذلك قولي في قصيدة عنوانها: «الشجن المر»:
مجلس الأمن الذي زعموا
حيثما شاءت له يكنِ
وأمين من صنائعها
نصبته غير مؤتمن
وقولي في قصيدة عنوانها: «شجون وراء الحدود» عن الدول الكبرى وتَحكُّمها في سير أمور ذلك المجلس:
والدول الكبرى تعبث في الدّنا مستأسده
وكم تجلى حيفها في الأمم المتحده
فوقفت منحازة للمعتدي مؤيده
ومجلس الأمن الأمين حوَّلته مصيده
ذو قوة إذا اشتهت وإن ترد شلَّت يده
وكانت بعض تلك الدول، التي فرضت بقوتها أن يكون لها حق نقض قرارات ذلك المجلس الدولي، قد وقفت موقفاً أبعد ما يكون عن العدل عند ارتكاب المجازر ضد المسلمين في البوسنة والهرسك. فكتبت قصيدة من أبياتها:
وجرائم الأعداء تبدو عندها
أفعال هولاكو أعف وأرحما
ومفسر القانون وفق مزاجه
يرنو أصم إلى الجرائم أبكما
ويمارس التسويف خطة بارع
حتى يراق دم البريء ويعدما
ما كان أسرعه ليردع ظالماً
لو لم يك المظلوم شعباً سلما
وعبرت عن إفلاس بعض حكام أمتنا، الذين يتوسلون بمجلس الأمن كي يقف ضد المعتدين عليها، قائلاً:
والسادرون من الحكام ما برحوا
يرجون من نهب الأوطان واستلبا
لمجلس الأمن قد مدوا أكفهم
ساء المؤمل والمأمول منقلبا
هل يفرض المجلس الدولي سلطته
إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟
ذلك ما كنت - وما أزال - أراه في مجلس الأمن بالنسبة لقضايا أمتنا، سواء كان الواقفون فيه ضد تلك القضايا ممثلين في أمريكا فيما يتعلق بقضية فلسطين أو في روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقا) فيما يتصل بقضايا هذه الأمة الأخرى. وما حدث في مجلس الأمن أخيراً ليس جديداً أو غير متوقع.
أما بعد:
فالهدف الأكبر من كتابة هذه المقالة ليس الحديث عن مجلس الأمن الدولي، وإنما عن موقف الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وبخاصة في عهد الأمين العام الجديد لها. لقد كان سلفه دبلوماسياً جيداً ذا موقف وطني مشهود له بالجودة عندما كان وزيراً لخارجية جمهورية مصر العربية. شهد له بذلك الكثيرون داخل وطنه الكنانة وخارجه.
ولقد أمضى عمرو موسى أعواماً أميناً عاماً لجامعة الدول العربية يبدي، حيناً، من التصريحات ما يتفق مع موقفه الجيد، الذي كان معروفاً عنه حينما كان وزيراً للخارجية، لكنه يظهر، حيناً آخر، موقفاً لا ينسجم مع ما سبق أن كان يبدو فيه. وكنت قد كتبت مقالة عنه (نشرت في هذه الصحيفة بتاريخ 20-1-2009م) بعنوان «الأمين العام وعاقبة أمره».. مما ورد في تلك المقالة:
«كانت مواقف ذلك السياسي في وزارة الخارجية المصرية ذات أثر لا يستهان به في قضايا أمتنا، وذلك لأهمية مصر بالنسبة لهذه القضايا.. ذلك الأثر أدركه من أدركه عند نهاية عمله - أو إنهائه كما يظن بعض الناس - من وزارة الخارجية في بلاده. وقد نظر البعض إلى انتقاله ليصبح أميناً عاماً لجامعة الدول العربية على أنه رفع لمكانته. لكن من المُرجَّح جداً أن قادة الكيان الصهيوني كانوا سعداء في غيابه عن مسرح وزارة الخارجية المصرية. ذلك أنهم يدركون أن تلك الجامعة لم تعد لها أهمية تذكر في المجال السياسي منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهذا المجال هو المهم لدى أولئك الصهاينة.
ومحاولات السيد عمرو موسى؛ بصفته أميناً عاماً للجامعة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في أمور أمانتها مُقدَّرة كل التقدير لدى المنصفين. لكن أكثر تلك المحاولات باءت بالإخفاق؛ إذ أصبحت اجتماعات زعماء العرب - على العموم - تتمخض عن قرارات أبرز ما فيها مجرد إدانة وشجب لما يرتكب بحق أمتنا، وبخاصة ما يتعلق بقضية فلسطين.
وأذكر أنه قال في نهاية أحد الاجتماعات العربية: إنه اتضح بما لا مجال للشك فيه أن محاولات السلام مع الكيان الصهيوني ثبت إخفاقها، وأن اللجوء إلى مجلس الأمن لا فائدة فيه؛ إذ تسيره أمريكا، وأمريكا لا تخالف رغبة ذلك الكيان. وإني لأعتقد اعتقاداً جازماً أنه لو استقال من أمانة الجامعة العربية في ذلك الوقت لكان من شبه المؤكد أن الشعب المصري - بعد أن حدث في مصر ما حدث - سوف ينتخبه رئيساً للكنانة. لكنه - لسوء حظه في ظني - ظل معانقاً للركب في الذهاب إلى مجلس الأمن عند بداية ارتكاب الصهاينة مذبحة إبادة جديدة في غزة. وإن كثيرين ليقولون: كيف تحمل الإهانة التي وجهتها إليه وزيرة خارجية أمريكا برفضها أن يكون هو مع وفد وزراء الخارجية العرب الذين أرادت الاجتماع بهم. وإني لآسى عليه، وأتألَّم له؛ وهو صاحب التاريخ الدبلوماسي الجيد عندما كان وزيراً لخارجية بلاده، أن تكون عاقبة أمره في عمله خسراً بعد أن وصلت أمور الجامعة، التي هو أمينها العام، إلى ما وصلت إليه من مستوى في العمل السياسي. أعانه الله إن استمر في العمل، ورحم تاريخاً كان مشرقاً في مرحلة من الزمن».
ولقد مضى عهد السيد عمرو موسى في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بإيجابياته القليلة وسلبياته المتمثلة في قرارات زعماء تدل على العجز، عبرت عنها بالقول:
السادرون من الحكام ديدنهم
في كل نازلة شجب وتنديد
هاموا وراء سراب السِّلم زادُهم
من عمِّهم سام توجيهٌ وتعميد
وطاعة السيد الجبَّار واجبةٌ
لها بشرعِ سكارى الذُّل تأكيد
ومقتضى الطاعة العمياء مظهرها
من الأذلاء تسبيح وتحميد
باعوا المواطن كي تبقى مناصبهم
يحيطها من رضا الأسياد تأييد
وبعد مُضيِّ عهد السيد عمرو موسى في أمانة الجامعة جاء عهد نبيل العربي. وأبرز ما واجهت هذا الأمين العام الجديد الكارثة الحالة في سورية المنكوبة، التي تحدثت عنها في مقالات بينها واحدة نشرت في هذه الصحيفة (بتاريخ 15-9-1432هـ الموافق 15-8-2011م) بعنوان «ويلي عليها وويلي من مصيبتها». ومن بداية تعامله مع تلك الكارثة ظهر لي أنه ينطبق عليه المثل النجدي القائل بلهجة شمالي نجد: «الليلة الظلما تبيّن من عشاه». فبعد شهور من استمرار المجازر المرتكبة في تلك البلاد المنكوبة ذهب إلى هناك ليعود وفي جعبته مجرد قول: «إن الرئيس السوري وعد بإصلاحات». وبعد أن تقرر إرسال مراقبين من الدول العربية للاطلاع على ما كان مستمراً من ارتكاب المجازر؛ وهو أمر كانت وسائل الإعلام العالمية تعرضه بوضوح، تمثل موقفه في أمرين كلٌّ منهما بعيد كل البعد عن العدل والعقل. الأول أنه اختار لرئاسة أولئك المراقبين رجلاً يعلم الكثيرون أن سيرته لا تؤهله لحمل المسؤولية المسندة إليه. وما تجلَّى من مواقفه توضح ذلك كل التوضيح. والثاني أنه قال: إن المهمة ليست معنية بما جرى في سورية قبل وصول المراقبين إليها. فبأي وجه من وجوه العدل والعقل يتجاهل ما قام به المرتكبون لتلك المجازر شهوراً عديدة ضد من كانوا مسالمين طوال تلك الشهور، وأن هؤلاء المسالمين لم يلجأ المقتدرون إلى الدفاع عنهم إلا بعد اليأس من وقوف ارتكاب المجازر أو إيقافها؟ إن أقل ما يمكن أن يسأل عنه هو: هل موقف الأمين العام الحالي موقف من يرعى الأمانة التي حُمِّل إياها؟