تطرح التغيرات التي يشهدها العالم العربي حالياً تساؤلات تفرض نفسها على المواطن العربي كلما شاهد أو قرأ أو سمع التغطيات الإخبارية التي تبثها وتتناقلها وسائل الإعلام. وكمواطن عربي، أجدني كثيراً ما أتساءل: هل «السياسة» في عالمنا العربي أصبحت غاية بحد ذاتها أم أنها هدفٌ لتحقيق غايات يُفترض أن تكون سامية ولصالح الوطن والمواطن؟
إنني أدرك أن من المفترض، بالطبع، أن تنطوي هذه التحولات والتغيرات على بروز مطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية ومطالب أخرى تتعلق بمصالح جميع فئات الشعب لكنني لا أستوعب أن يتصاعد عدد الأحزاب السياسية المسجلة رسمياً في بلد صغير مثل تونس ليصل إلى مائة وتسعة عشر حزباً سياسياً يرى كل واحدٍ منها أنه يخرج إلى النور استجابة لمطالب شعبية!! وبالطبع لا يحق لأحد، وخصوصاً من خارج تونس، أن يصادر إرادة الناس أو أن يعترض على وجود هذا العدد الهائل من الأحزاب طالما أن القوانين التونسية تتيح ذلك.. لكنني أتساءل فقط عن مدى فائدة وجود هذا العدد الهائل جداً من الأحزاب التي يمكن أن تتداخل برامجها لدرجة تشتت قدرة الناخب التونسي على اختيار الحزب الذي يعبر عن أفكاره حقاً.. كما أنها تؤدي إلى تشرذم الأحزاب نفسها وتضعف قدرتها على المنافسة وإيجاد الثقل السياسي اللازم لها داخل البرلمان.
من الملاحظ أن الدول التي تتمتع بتجربة ديمقراطية عريقة لا توجد فيها مثل هذه الأعداد الكبيرة من الأحزاب على المستوى الوطني وإن كانت فيها أحزاب محلية ذات تأثير محدود على مستوى الولايات، على الرغم من أن بعضها يملك كثافة سكانية كبيرة وتنوعاً في التيارات والتوجهات السياسية والفكرية.
في المقابل، هناك دول أخرى تشكلت الخريطة السياسية فيها من عدد كبير من الأحزاب ما جعل الحياة السياسية فيها تعاني من عدم الاستقرار، وذلك لصعوبة تشكيل أي حكومة إلا بعد مفاوضات ومساومات شاقة بين الأحزاب للوصول إلى ائتلافات حكومية لا تلبث أن تختلف فيما بينها ما يؤدي إلى سقوط الحكومة والدخول مجدداً في دوامة الخلافات وتعطيل الحياة السياسية ومصالح الشعب.
لقد ثبت من التجارب التنموية التاريخية للمجتمعات التي استطاعت أن تحقق التقدم أن الاستقرار السياسي كان أحد أهم الشروط التي ساعدت هذه المجتمعات على الوصول إلى ما وصلت إليه من مستويات متقدمة. ولا أقصد أن الاستقرار السياسي وحده كفيل بتحقيق التقدم، لكن غيابه يؤدي إلى إعاقة تنفيذ أي خطط أو مشاريع تنموية لأن النخبة السياسية تكون منشغلة في التناحر والمماحكات وتَصَيُّد الأخطاء وذلك على حساب المصالح الحقيقية للمواطنين. وقد تابعنا ما أصاب الحياة السياسية في دولة الكويت من شلل في بعض الفترات بسبب الخلافات السياسية ما أعاق انطلاق التجربة التنموية الكويتية الرائدة خليجياً وبروز تجارب تنموية جديدة خطفت قصب السبق منها مثل تجربة الإمارات العربية المتحدة التي سلمت مما تعرضت له الكويت.
وباختصار، فإن حيوية التجارب الإصلاحية الراهنة في العالم العربي هي مما يتابعه المواطنون العرب ويتطلعون إلى أن تثمر إلى ما هو أهم من تكوين عشرات الأحزاب والشعارات التي قد لا توفر حتى رغيف الخبز للمواطن.. فلو تبعثرت هذه الجهود الإصلاحية وتشظَّت بسبب الجدل والخلافات والتحزبات فإن الوطن العربي يكون قد خسر تجربة كبرى بذل من أجلها أرواحاً كثيرة من القتلى والجرحى والمعوقين منذ انطلاق الثورة التونسية حتى الآن.
alhumaid3@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض