من رأى منكم السيدة الشقراء وهي تتحدث بالإنجليزية على شاشة إحدى قنواتنا؟ وكيف كانت سعيدة بهذا المهرجان، وهي ترى أشياء للمرة الأولى؟ وتعتبر ما رأته في المهرجان لم تكن لتجده في أي مهرجان في العالم؟ هذا صحيح، ليس لأن ما قدمناه في (الجنادرية) كان مُفاجِئاً واستثنائياً بفقراته ومكوناته، ولكن الأمر ببساطة أنه قدّم الثقافة التقليدية الشعبية في هذا البلد، وأحضر البيئات والفقرات الغنائية الشعبية المختلفة في ثقافتنا، وهو ما نتميز به عن غيرنا، فمن يرى الرقصة الشعبية للجوف يشعر بدهشة، وهو يقارنها برقصة جازان أو نجران، تلك التي تعتمد على الخفّة والقفز بالخناجر، ومقارنتهما بعرضة أهل نجد، وهكذا من تنوع ثقافي لافت.
السؤال الذي ورد إلى ذهني وأنا أشاهد هذه السيدة، هو لو لم تأت في هذا التوقيت، لو جاءت بعد (الجنادرية) بأيام، فماذا ستجد؟ لا شيء، مجرد بقايا مهرجان كان هنا، ثم مضى... فكيف يمكن أن نُوجد موقعاً شعبياً جميلاً، يكون قبلة السياح الأجانب، بل حتى لأهل البلد الذين يرغبون في الاستمتاع في بيئة شعبية خالصة، تضم محالاً لبيع التراث، ومطاعم تُقدم الأكل الشعبي فقط، وفرقاً غنائية متواجدة بشكل يومي، وهكذا...
كيف يمكن أن يكون لدينا جنادرية صغرى طوال العام، هذا هو السؤال المهم، والإجابة عليه ستكون بذرة لوضع التراث والتاريخ شاهداً أمام الجميع، أتمنى ألا يأتي أحدكم ويقول: هذا سوق الزل عندنا شاهداً على التراث، أو قصر المصمك شاهداً على التاريخ، فرغم جمالهما وأهميتهما لدى السائح، إلا أنهما لا تضعان ثقافة المكان وتاريخه كاملاً أمام الزائر، فلا سوق الزل في الرياض، ولا سوق واقف في الدوحة، ولا سوق المباركية في الكويت، هي ما أعنيه في هذا المقال، وإنما ما قصدته هو سوق متكمل يضم البضائع الشعبية المتاحة للبيع، والسلع النادرة، والمطاعم التي تختص بالأكل الشعبي فقط، تبعاً لمناطق المملكة، والفرق الشعبية الغنائية، والمعمار الشعبي لمختلف البيئات، والفنادق المبنية من مواد البيئة، والمصممة على النظام الشعبي القديم، إلى حد أن يكون السوق عبارة عن مدينة صغيرة، أو قرية قديمة متكاملة، بكل مهنها وسلعها وعرباتها وأكلاتها... إلخ، خصوصاً أن معظم الأحياء الشعبية القديمة في الرياض قد أُبيدت ومُسحت بالكامل، فبدلاً من الاعتناء بأحياء الشميسي ومنفوحة والعطايف ومعكال وغيرها، وترميمها لتكون معلماً حضارياً مهماً، مُسح معظمها، وبُني البعض الآخر بطريقة البيوت المسلحة لتكون مسكناً للعمالة الوافدة! ماذا لو تشكّلت عدة لجان لمشروع ضخم كهذا، يضم اللجنة التي استطاعت المحافظة على ملامح مهرجان (الجنادرية) على مدى أكثر من ربع قرن، ولجنة من أمانة مدينة الرياض، ولجنة من هيئة تطوير مدينة الرياض، ولجنة من هيئة السياحة والآثار، ولجان من المختصين في المحافظة على التراث، وقامت جميعها بوضع تصور أو خطة متكاملة لإعادة الهوية المفقودة لهذه المدينة؟ أعتقد أننا سنخرج بتصور رائع يعيد ملامح المدينة المفقودة، بدلاً من الركض خلف إنشاء أبراج وناطحات سحاب، فماذا سنضيف إلى دبي وكوالالمبور وطوكيو ونيويورك؟ لا شيء أبداً...
لكننا سنكون نحن بهويتنا وملامحنا، لا ملامح الآخرين المستعارة.